وتقع أبيي على الحدود بين السودان وجنوب السودان، وتتبع لولاية غرب كردفان. تعيش في شمالها قبيلة المسيرية الرعوية، وفي جنوبها قبيلة دينكا نقوك، فيما لا يعترف كل طرف بوجود أصيل للطرف الآخر. وترى دينكا نقوك أنّ المسيرية مجرّد رعاة عابرون للمنطقة من أجل الرعي، بينما ترى المسيرية أنّ "الدينكا" ما هم إلا ضيوف في المنطقة، رُحِّب بهم تاريخياً بعد هروبهم من بطش مجموعات قبلية في جنوب السودان.
ولأبيي تاريخ طويل من النزاعات، بدأ منذ استقلال السودان في عام 1965، إذ وضعت المنطقة ضمن حدود شمال السودان، فيما رأى الجنوب كإقليم، أنه يجب إبقائها ضمن حدوده، بحجة أنها تاريخياً تتبع لإقليم بحر الغزال (إقليم في جنوب السودان)، وأنّ الاستعمار الإنكليزي اختار ضمّها إلى الشمال فقط من أجل تقريب المسافات الإدارية. لكنّ الشمال رفض ذلك، معتمداً على الحدود التي رُسمت بعد الاستقلال، أساساً لترسيم أي حدود.
اجتماعياً، يأخذ النزاع وجهاً آخر بالنسبة إلى قبيلة المسيرية التي تتمسّك بأحقيتها بالمنطقة وتبعيتها للشمال، بينما تتمسك دينكا نقوك بما تعتبره حقاً تاريخياً لها بأبيي ورغبة بتتبيعها لدولة جنوب السودان الوليدة. كذلك لا يغيب العامل الاقتصادي عن النزاع الطويل، إذ تعدّ منطقة أبيي واحدة من المناطق الغنية بالنفط، وبالتالي تحرص كل دولة على الاحتفاظ بها ضمن حدودها.
وفي عام 2005، توصّل الشمال والجنوب إلى اتفاق تاريخي بينهما وضع بموجبه بروتوكول خاص بمنطقة أبيي، نصّ في جوهره على إجراء استفتاء شعبي للسكان لتقرير مصيرهم، ما بين البقاء في الشمال أو الانضمام إلى الجنوب، غير أنّ الخلاف احتدم حول حدود المنطقة التي سيجري فيها الاستفتاء، فأحيل الأمر على محكمة العدل الدولية في لاهاي التي توصّلت إلى حكم رضي به الطرفان. وبعد ذلك جاء خلاف أكبر حول من يحقّ له التصويت في الاستفتاء.
وعلى الرغم من حالة التوافق بين الشمال والجنوب في الفترة من عام 2005 إلى عام 2011، إلا أنّ معارك ضارية دارت بين الطرفين في العامين 2008 و2011 في أبيي، انتهت بقرار من مجلس الأمن بنشر قوات دولية قوامها 4500 جندي إثيوبي في المنطقة، لا تزال تتولى مهمة حفظ الأمن وحماية المدنيين هناك.
في عام 2013 وما بعده، انشغل جنوب السودان بالحرب الأهلية الداخلية بعدما كان قد حقّق الانفصال عن الشمال في عام 2011. وانشغل السودان بدوره بجملة من الملفات الداخلية، آخرها الثورة التي أطاحت نظام الرئيس المعزول، عمر البشير، وبالتالي جمّد الطرفان عن عمد ملف نزاعهما بشأن أبيي، ولا سيما مع رعاية كل طرف لعملية السلام في البلد الآخر. غير أنّ الأحداث الأخيرة قد تفتح الباب لحمامات دم جديدة في المنطقة، حسب ما يرى كثير من المراقبين.
لكنّ الحكومة السودانية الانتقالية، ومن خلال بيان أصدرته الأربعاء، تعليقاً على الأحداث، جزمت بأنّ قضية أبيي "لا يمكن حلها إلا بالحوار والتفاهم والتعايش المشترك بين المجتمعات المختلفة"، قبل أن تتأسّف على ما حدث من سقوط للضحايا. كذلك أدانت "الهجمات على المدنيين العزل، والأعمال الانتقامية من أي طرف، والتصعيد والتحريض القبلي، الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من التوتر وأعمال العنف".
وتعهدت الحكومة الانتقالية بعدم السماح "باستمرار مسلسل استرخاص الدم السوداني في أي بقعة من بقاع البلاد"، وأنها ستعمل "بكلّ حزم لحماية المدنيين العزّل، وصون كرامتهم"، داعيةً قوات السلام الإثيوبية المنتشرة في المنطقة، والمعروفة اختصاراً بـ"اليونيسيفا"، إلى التحرّك لضبط الأوضاع الأمنية وحماية المدنيين.
وتعليقاً على هذه المستجدات، قال الصحافي الجنوب سوداني، قبريال شدار، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ ما حدث أخيراً في أبيي "مجرّد رسالة من مليشيات قبلية من المسيرية للحكومة في الخرطوم، تحاول عبرها عرقلة التطبيع والانفراج الحاصل في العلاقات بين السودان وجنوب السودان، عقب سقوط نظام البشير، وكذلك عرقلة الاتفاقيات التي جرى التوصّل إليها بين الخرطوم وجوبا حول ترسيم الحدود"، مرجحاً كذلك "رغبة المليشيات المعروفة بموالاة نظام البشير، في إثارة الغبار في طريق النظام الجديد في الخرطوم، في وقت يحتاج فيه هذا النظام للاستقرار وعدم حدوث أي انفلات أمني".
وأوضح شدار أنّ الكثير من أحداث العنف تأتي أحياناً رداً على عملية خطف لأبقار المسيرية داخل حدود جنوب السودان، بينما يكون الردّ إنتقامياً وفي أماكن بعيدة، مشيراً إلى أنّ جنوب السودان "تمكّن من السيطرة على مجموعات تستهدف المسيرية في أثناء رحلاتهم لرعي الأبقار في الجنوب". ورأى شدار أنّ الحكومة الجديدة في الخرطوم "بحاجة ماسة لوقف تسليح القبائل في أبيي، والحدّ من قدراتها العسكرية، وترك الحلول للمسارات السياسية".
غير أنّ الخبير العسكري السوداني، الفريق محمد بشير سليمان، قال إنّ قبيلة المسيرية "تخلّت منذ زمن بعيد عن موالاة النظام السابق الذي تخلى بدوره عنها في أكثر من مناسبة، على الرغم من الخدمات الكبيرة التي قدمتها القبلية في الصراع بين الشمال والجنوب"، لافتاً إلى أنّ "المسيرية غير راضية عن كل الاتفاقيات التي وقّعت بخصوص مصير أبيي".
وأوضح سليمان في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ الهجمات الأخيرة من المسيرية "ربما كانت تأتي رداً على الهجمات المستمرة والممنهجة التي يتعرضون لها في أبيي من الطرف الآخر، ولا سيما في مناطق جنوب وغرب كردفان". وعبّر عن خشيته من "نجاح مخطط لدولة جنوب السودان، يعمل على مبادلة جهودها في تحقيق السلام في السودان، بضمّ منطقة أبيي إليها"، وأكد أنّ "الحلّ النهائي في المنطقة هو تتبيعها للشمال، صاحب الحق التاريخي فيها، أو على الأقل الاتفاق على إدارة مشتركة للمنطقة، والتوافق على حياة مشتركة للمكونات المجتمعية، والاستفادة المشتركة كذلك من النفط وغيره من الموارد".
من جهته، رأى المحلّل السياسي، محمد حامد جمعة، أنّ ملابسات ما حدث "غير واضحة من الخرطوم وجوبا بشكل رسمي"، مشيراً إلى أنّ "الحكومة السودانية أصدرت بياناً رسمياً متوازناً، حينما ناشدت اليونيسيفا أداء دورها والتدخل وحماية المدنيين، وهو ما يشير إلى عدم رغبة السودان في تحويل الأمر إلى مواجهة مباشرة مع جنوب السودان، التي بدورها تتعرّض في الإعلام الجنوبي ووسائل التواصل الاجتماعي، لضغوط عالية، ومكثّفة للقيام بعمل ما. لكن رسمياً، يبدو موقف جوبا أكثر ميلاً إلى ذات توجهات الموقف الذي أعلنته الخرطوم بالإدانة ومطالبة اليونيسيفا بالتدخل".
وأضاف جمعة في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّه "قياساً على وقائع سياسية وأمنية إيجابية، لا يبدو مرجحاً انحدار الأمر لمواجهة أو أزمة بين البلدين، لاعتبارات مصالح مشاريع السلام، وأدوار الخرطوم في ملف أزمة الفرقاء الجنوبيين، ووساطة جوبا بين الحكومة الانتقالية ومتمردي دارفور والحركة الشعبية-قطاع الشمال، والنتائج المبشّرة بين كل الأطراف". وتوقّع أن يعيد حادث أبيي القضية بالمجمل إلى الواجهة بما قد ينشّط عملية التواصل باللقاءات وإعادة إحياء الملف.