على وقع التقدّم النسبي في ملف التفاوض بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان"، تستمر الأزمة السياسية في أفغانستان على بيخلفية الانتخابات الرئاسية الأخيرة وقيام الرئيس أشرف غني ومنافسه عبد الله عبد الله بإعلان كل منهما فوزه فيها، وفي ظلّ فشل الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أخيراً إلى كابول في محاولة لحلحلة هذه الأزمة.
وفي جديد التطورات، وصل وفد من "طالبان" أمس الجمعة إلى العاصمة كابول، من أجل التباحث مع الحكومة الأفغانية بقضية الأسرى. وقال المتحدث باسم المكتب السياسي لـ"طالبان" في الدوحة، سهيل شاهين، في تصريح صحافي قبل الزيارة، إنّ وفد الحركة المؤلف من 15 عضواً "سيبحث قضية الأسرى مع الحكومة الأفغانية لا أكثر"، موضحاً أنّ أعضاء الوفد يذهبون إلى كابول بمساعدة الصليب الأحمر الدولي، وسيزورون قاعدة أو سجن "باغرام"، من أجل توثيق أسماء معتقلي "طالبان" الذين سيتم الإفراج عنهم.
وجاءت زيارة وفد "طالبان" إلى كابول بعد يوم من إعلان الحكومة الأفغانية عن هيئة مفاوضيها مع الحركة، برئاسة رئيس الاستخبارات السابق محمد معصوم ستانكزاي، والذي شغل سابقاً أيضاً منصب رئيس اللجنة العليا للمصالحة الأفغانية. وبتسمية هذه اللجنة، تكون الحكومة قد رفضت اقتراحات الأحزاب السياسية والجهادية من أجل الشراكة في الهيئة، كما سحبت عرض غني للتصالح مع منافسه عبد الله لإنهاء الأزمة السياسية، والتي لا تزال قائمة بعد فشل المساعي الأميركية والمحلية باحتوائها. وكان غني قد عرض على منافسه أن يشغل منصب رئيس هيئة التفاوض مع "طالبان"، وأن يلعب دوراً أهم بهذا الخصوص، إضافة إلى تعيين بعض حلفائه في المجلس الوزاري. وكان بومبيو قد طلب من عبد الله قبول هذا العرض وأن يلعب دوراً في المصالحة، وهي القضية الأهم بالنسبة للأفغان، لكن عبد الله رفض ذلك. وبات السؤال المطروح اليوم بعد إعلان هيئة التفاوض، هل أن غني يتغاضى عن التصالح مع عبد الله، ويعتبر القضية منتهية، كما يتصور أنصاره، أم أنّ هناك عرضاً آخر قد يقدمه لمنافسه؟
وبغض النظر عن هذا السؤال وغيره من النقاط الكثيرة بهذا الخصوص، بدا واضحاً أن عبد الله بدأ يخسر أوراقه الواحدة تلو الأخرى، وأنّ الأمور لم تحدث كما كان يتوقع، إضافة إلى الضغوط التي واجهها وما زال من قبل حلفائه، فضلاً عن سياسات غني. كما أنّ الوضع السائد بسبب جائحة كورونا من جهة، والتقدّم، وإن كان نسبياً، في ملف المصالحة مع "طالبان" من جهة ثانية، لم يساعدا عبد الله.
ولوحظ في كلام عبد الله، خلال مؤتمره الصحافي أول من أمس الخميس، كثير من المرونة غير المسبوقة، مع تركيزه على عزمه الدفاع والحفاظ على أصوات الناخبين، ومحاربة التزوير الذي وقع في الانتخابات لصالح منافسه غني، على حدّ قوله. وشدد على الحفاظ على المصالح الوطنية ونبذ العنف، رافضاً اللجوء إلى السلاح، ولافتاً إلى أنه يريد الدفاع عن حق ناخبيه، ومن أجله ترك السلاح، وإلى أنه لن يلجأ إليه مرة أخرى.
لكن اليأس كان واضحاً في نبرته من تعامل الرئيس الأفغاني، متهماً إياه بعدم اعتماد المرونة في التعامل مع القضية السياسية، ما أضر بها وأدى إلى الأزمة القائمة. وكل تلك المواقف تشير إلى أنّ عبد الله جاهز لحلّ الأزمة، والقبول بأقلّ مما كان يطلبه سابقاً، مع نفيه أن يكون مطلبه أكثر مما يسمح به الدستور، كما سبق أن قال غني في خطاب له أمام الشعب بعد إعلان واشنطن خفض مساعدتها لأفغانستان بقيمة مليار دولار بسبب الخلافات بين الرجلين.
عبد الله الذي يعتبر نفسه فائزاً بالانتخابات ورئيساً للبلاد، أشاد بدور الولايات المتحدة في مساعدة بلاده، إلا أنّه أكد أنّ بومبيو لم يزر كابول من أجل الوساطة بينه وبين غني، بل طلب فقط حلّ الأزمة عندما جلس معهما، ما يشير إلى أنّه كان يتطلع لوساطة أميركية قد تحلّ المشكلة.
وبدا الحراك الأميركي منذ بداية الأزمة أقلّ من تطلعات الأفغان جميعاً، وليس فقط عبد الله، إذ التزمت واشنطن الصمت الكامل في بداية الأزمة، ثمّ جاء التحرك المتأخر من قبل المبعوث الأميركي الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد لحلّ القضية، وذلك قبيل أداء كل من غني وعبد الله اليمين الدستورية، كل منهما كرئيس في التاسع من شهر مارس/ آذار الحالي. وأخيراً، جاءت زيارة بومبيو وهي لم تكن للوساطة، كما قال عبد الله، بل لتوجيه رسالة مفادها بأنّ حلّ القضية بيد الأفغان. كل ذلك أثار أسئلة حول التعاطي الأميركي مع الأزمة السياسية في أفغانستان.
من جهة ثانية، وبعد زيارة بومبيو إلى كابول، بل وقبلها، بدا أنّ الرئيس الأفغاني لجأ إلى ممارسة الضغوط على عبد الله، وذلك من خلال جذب رموز السياسة والسلاح في أفغانستان، وخلق فجوة بينهم وبين عبد الله. ويبدو أنّ غني استطاع أن يحصل على تأييد قيادي مهم في الشمال، هو الجنرال عبد الرشيد دوستم الذي وقف إلى جانب عبد الله في الانتخابات الماضية، بل كان أول من طرح سابقاً فكرة الحكومة الموازية إذا ما استمر أشرف غني في الحكم نتيجة انتخابات مزورة، على حدّ قوله. ولكن في ظلّ الأزمة الراهنة، برز صمت دوستم المطبق، ثمّ جاء تعيين نجله، باتور دوستم، عضواً في هيئة التفاوض مع "طالبان"، لتضاف إلى ذلك تسريبات تشير إلى أنّه سيتولى منصباً مهماً في الحكومة في الأيام المقبلة. وسبق أن نجح غني في استمالة الأمين العام للجمعية الإسلامية، القائد الجهادي الذي يواليه مسلحون في الشمال الأفغاني، الجنرال محمد عطاء نور، والذي وقف علناً ضدّ عبد الله، ليقوم غني بتعيين نجله خالد نور عضواً في هيئة التفاوض مع "طالبان".
علاوة على ذلك، أوقف غني ميزانية مكتب عبد الله المسجل في سجلات الحكومة سابقاً باسم مكتب الرئيس التنفيذي للحكومة، والذي يعتبره حالياً أنصار عبد الله مقراً للرئاسة، ويبلغ عدد الموظفين فيه 900 موظف. وقال المتحدث باسم وزارة المالية، شمروز خان مسجدي، أخيراً، إنه وفق مرسوم صادر عن غني، تمّ وقف ميزانية مكتب عبد الله، التي باتت تحوّل إلى دوائر أخرى. كما نقلت بعض وسائل الإعلام المحلية شكاوى بعض العاملين في المكتب بعدم حصولهم على المرتبات.
هذه الضغوط المتزايدة على عبد الله لا تعني أنّ الأزمة السياسية في طريقها للنهاية، فالجدل باقٍ، وعبد الله لديه أنصاره في الشارع وفي صفوف السياسيين ورموز البلاد، كالرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، وزعيم حزب "الوحدة" حاجي محقق، ورئيس اللجنة العليا للمصالحة محمد كريم خليل، وهو رجل له نفوذ في الأوساط الشيعية، كذلك "الجمعية الإسلامية" بزعامة وزير الخارجية السابق صلاح الدين رباني. وبالتالي، سيضطر الرئيس الأفغاني عاجلاً أو آجلاً لإيجاد حلول لهذا المعضلة.