يجمع أغلب الدبلوماسيين على أن العلاقات الدولية ما بعد أزمة فيروس كورونا ستشهد تغيرات عدة، بين تحالفات جديدة ستبنى، وعلاقات أخرى سيضمحل بريقها. وفي خضم هذه التطورات قد تضطر تونس، كما غيرها من الدول، إلى إعادة ترتيب علاقاتها الدولية ومراجعة سياساتها الخارجية، بعد أن أثبتت الأزمة مدى تضامن بعض الدول معها، وغياب أخرى.
ومن بين البلدان التي ساندت تونس في مواجهة كورونا، الصين، التي أعلنت عن مساعدات طبية، وهبة تتمثل في تجهيزات طبية ومعدات وصلت أخيراً إلى تونس وأخرى لا تزال مبرمجة. كما تبرع السفير الصيني في تونس وانغ ونبين بنصف مرتبه الشهري، في إطار مساندته للبلاد في مواجهة وباء كورونا. كذلك سارعت مجموعة الماجدة القطريّة للتبرع بمبلغ 10 ملايين دولار لمقاومة كورونا في تونس، وهي ليست المرة الأولى التي تساند قطر فيها تونس، إذ سبق أن ساعدتها في مناسبات أخرى.
وقدمت حكومة الوفاق الوطني بليبيا نحو 15 مليون دولار كمساعدة عاجلة لتونس لمواجهة الوباء، وتم تبليغ الرئيس التونسي قيس سعيّد تضامن الشعب الليبي مع نظيره التونسي ومع الدولة التونسية لكي تتجاوز هذا الوباء، إلى جانب إرسال وفد من وزارة الصحة الليبية إلى تونس لتشكيل لجنة مشتركة لمكافحة الجائحة، والعمل المشترك لتوفير كل مستلزمات نجاح مقاومة الفيروس. بدوره، سارع الأردن لتوجيه طائرة خاصة إلى تونس لنقل الدواء المضاد للملاريا، والذي أعطى نتائج إيجابية في معالجة فيروس كورونا. وأعرب الملك الأردني عبد الله الثاني عن تقديره لمطالبة تونس بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي للتباحث بشأن تداعيات فيروس كورونا على السلم والأمن الدوليين.
والثلاثاء الماضي، تحادث رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ مع مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية جوزيب بوريل، الذي جدد، بحسب بيان للاتحاد، تضامن الاتحاد مع تونس في هذه الأوقات العصيبة، مذكراً بقرار الاتحاد صرف نحو 250 مليون يورو، بصفة مستعجلة، للميزانية التونسية لسنة 2020. ولفت إلى أن "هذا القرار اتخذ بالاتفاق مع تونس، ويهدف إلى معاضدة الجهود التونسية في التصدي لوباء فيروس كورونا". وكان المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار ومفاوضات التوسع أوليفر فارلي قد أعلن، أخيراً، خلال اتصال هاتفي مع وزير الشؤون الخارجية نور الدين الري، أن الاتحاد الأوروبي قرّر صرف مبلغ 250 مليون يورو، وبشكل سريع، لتونس، في شكل هبات لدعم ميزانية الدولة، في إطار الجهود التي تقودها الحكومة لمحاربة كورونا والحدّ من تداعياته الاجتماعية والاقتصادية.
ورأى رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، وزير الخارجية الأسبق، رفيق عبد السلام، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ العالم مقدم على تغييرات هامة، إذ ستكون هناك مرحلة ما قبل كورونا ومرحلة ما بعده، مبيناً أنّ كل ما سيحدثه كورونا هو التسريع في التغييرات، فالكثير من المعطيات تشير إلى حصول تغييرات دولية، لأن الوضع الدولي سيسير نحو التعددية القطبية أكثر فأكثر. ولفت عبد السلام إلى أن الصين قد تصعد دولياً، مقابل تراجع محدود لدور الولايات المتحدة، مؤكداً أن الأمر لن يصل إلى تخلي أميركا عن قيادة النظام الدولي، إذ ستبقى القوة الأولى الرئيسية، ولكن سيتعمق دور المنافسة، مشيراً إلى أنّ روسيا قد تعود إلى الساحة مجدداً، وبالتالي سنسير نحو وضع تنافسي دولي.
وأوضح أن تونس ليست بمعزل عن هذه التطورات، إذ ستتأثر بالمعطيات الدولية والمتغيرات الإقليمية، مبيناً أن المنطقة العربية تسير على رمال متحركة، ومقبلة على تغيرات كبيرة على ضوء كورونا وبعده، خصوصاً أن الأوضاع السياسية هشة في دول كثيرة. وأكد أنّ "تونس ستعيش صعوبات، لكن تجربتها الديمقراطية ستقيها من منسوب المخاطر في ظل وجود مؤسسات سياسية، تحظى بثقة وشعبية واسعة، مع قدرة النظام الديمقراطي على إدارة الأزمات وحل المشكلات، ربما بحكمة أكبر من بعض الحكومات التي تعتبر أوضاعها السياسية غير مستقرة". ولفت عبد السلام إلى أنّ "تونس ستكون أكثر انفتاحاً مع القوى والدول التي وقفت إلى جانبها في هذه المحنة، أي مع الشركاء الدوليين والعرب الذين ساندوها في الأزمة، وطبيعي أن الدعم المالي والمساعدات سيؤثران إيجابياً على العلاقات الدبلوماسية، وستكون لهذه الدول مقبولية شعبية، وقد تحظى دول جديدة بتعاون أفضل".
واعتبر الوزير السابق أنّ "تجربة المغرب الكبير قد تشهد تطوراً في ظل الضغط من المؤسسات المغاربية والرأي العام لإحياء اتحاد المغرب العربي وتجاوز الانقسامات الحاصلة"، مؤكداً أن "هناك مشاكل مزمنة في تجربة المغرب العربي لم تحل بين دوله، ولكن يمكن أن توضع القضايا الخلافية جانباً، ويتم الاتجاه نحو تعميق المصالح الاقتصادية والتكامل بين شعوب المنطقة بخلفية عملية أكثر، وتعزيز المصالح والمنافع المشتركة بين بلدان المغرب العربي، لأن أزمة كورونا ستدفع في هذا الاتجاه".
من جهته، قال وزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس، في تصريح لـ"العربي الجديد": "سيحصل، بعد (انتهاء) أزمة كورونا، ترتيب جديد للعلاقات والمسؤوليات في العالم"، مشيراً إلى أن "ترتيب العالم سيتم بين دول ذات قدرات عالية وأخرى تدعي القوة، والتي كشفت الكارثة الصحية عن ضعفها وهشاشتها"، مبيناً أن "على تونس، في خضم هذه التغيرات، توخي الدبلوماسية المعتدلة المعتادة في التعامل مع الدول، من دون حدوث تغييرات تؤدي إلى زعزعة قوية في العلاقات الدولية". وأضاف "يتعين على تونس، نظراً لتموضعها الاستراتيجي، المحافظة على علاقتها المعتادة مع جيرانها، أي الجزائر وليبيا والمغرب، وهي فرصة لاستعادة وحدة المغرب الكبير، فالأزمة قد تعيد التسوية بين الفرقاء، خصوصاً في علاقة المغرب بالجزائر". وتابع "في ظل ما يحصل اليوم من تطورات دولية، والقيود الاقتصادية، وأزمة الإرهاب التي تعيشها بلدان المغرب العربي، ومع غلق الحدود مع أوروبا وتراجع الاستثمارات، فإن التكامل المغربي قد يكون الحل". ولفت إلى أن "الأزمة كشفت عن العلاقات التاريخية بين تونس وإيطاليا التي تعتبر جارة لتونس منذ القدم. ورغم بعض الأخطاء، فإنه يمكن إعادة بناء العلاقات بين البلدين، خصوصاً أن إيطاليا تمثل قاطرة للتطور الاقتصادي لتونس". واعتبر أنّ "العلاقات الدولية ستتغير بحسب الترتيب الجديد للدول، ومدى قدرتها على إعادة النهوض باقتصادها وتطوير علاقاتها، لكن من الواضح أن مكانة الصين ستصبح أقوى بعد كورونا".