وساندت كتل "قلب تونس" و"تحيا تونس" و"الإصلاح" و"المستقبل"، موقف "الدستوري الحر"، في حين التحقت "الكتلة الديمقراطية" و"الكتلة الوطنية" بالمنددين بما وصفوه "تجاوز الغنوشي لصلاحياته"، فيما بقيت حركة "النهضة" وحليفها غير المعلن، "ائتلاف الكرامة"، في الخانة المقابلة المدافعة عن رئيس البرلمان. وتأججت دعوات مساءلة الغنوشي على خلفيّة اتصال أجراه أخيراً برئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج لتهنئته بسيطرة قواته على قاعدة الوطية الجوية. وذكر البيان الرسمي لمكتب المجلس أنه "بعد استعراض مشروع اللائحة المقدّمة من قبل كتلة الحزب الدستوري الحر حول رفض التدخّل الأجنبي في ليبيا والمواقف الصادرة عن عدد من الكتل البرلمانية حول الدبلوماسية البرلمانية والتطورات في ليبيا، أقرّ المكتب عقد جلسة عامة في 3 يونيو/ حزيران 2020، تتضمّن النظر في لائحة الحزب الدستوري الحر وحوار حول الدبلوماسية البرلمانية في علاقة بالوضع في ليبيا".
وأكد الغنوشي في نهاية الاجتماع أن "رئاسة المجلس حرصت على توفير الظروف الملائمة للنواب المعتصمين، آملاً أن يتمّ تجاوز أجواء الشحن والتنافي وأن يحتفل الجميع بالعيد (عيد الفطر) بين عائلاتهم". وجدّد رئيس البرلمان الدعوة إلى "التهدئة والحوار وتغليب المصلحة العامة التي تقتضي نبذ المشاحنات والتجاذبات الضيّقة، والانتصار لقيم الوحدة والتضامن لمُجابهة التداعيات الصعبة التي تمرّ بها بلادنا والعالم نتيجة تفشّي وباء كورونا"، مشدّداً على "ضرورة الاتجاه إلى إنعاش الاقتصاد وتركيز مجلس نواب الشعب جهده على المستوى التشريعي وفي اتجاه استكمال إرساء الهيئات الدستورية وفي مقدّمتها المحكمة الدستورية".
وتعدّ الجلسة المقررة لمساءلة الغنوشي الثانية من نوعها، بعد جلسة يناير/ كانون الثاني الماضي التي عُقدت على خلفية زيارته غير المعلنة إلى أنقرة ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وأكّد الغنوشي وقتها خلال إجابته عن انتقادات النواب واتهامهم له بتجاوز صلاحياته، أن انعقاد هذه الجلسة تؤكد "المنسوب العالي للديمقراطية" الذي بلغه البرلمان التونسي، في وقت وصفت النائبة عن "النهضة" يمينة الزغلامي الأمر بـ"سابقة في الديمقراطية كرسها الأستاذ راشد الغنوشي بالذهاب إلى جلسة لمساءلة رئيس البرلمان حول نشاطه الحزبي وعقد جلسة عامة أمام البرلمانيين للحوار معه حول زيارته". وأضافت "هذا ليس برلمان الأفواه المكمومة وليس برلمان التصويت بالإجماع من دون معارضة وليس برلمان الديكتاتورية، فتَحتَ رئاسة راشد الغنوشي البرلمان يطلب من رئيسه توضيح زيارة حزبية".
ولم يعرف البرلمان منذ بداية ولايته منذ ستة أشهر تقريباً استقراراً في أعماله، وهو ما يفسّره خبراء سياسيون بهشاشة القانون الداخلي من جهة وتركيبة البرلمان الفسيفسائية التي تضمّ الأضداد المختلفة أيديولوجياً وفكرياً، إلى جانب تجمّع الخصوم تحت قبة البرلمان في مجموعات صغيرة لا تملك أي منها أغلبية كافية للحكم أو لتزعّم البرلمان، فكتلة "النهضة" الكبرى عددياً، لا يتجاوز عدد نوابها الـ54 نائباً، أي أنها لا تصل إلى ربع تركيبة البرلمان المكوّن من 217 نائباً. مع العلم أن البرلمان يتحرّك وفق آليات وقواعد وقوانين وُضعت لتسهّل ممارسته لسلطته التشريعية والرقابية والتمثيلية، غير أن الآليات كثيراً ما تنقلب على واضعها حتى أضحت سبباً في تعطيل أعماله وأنشطته.
في السياق، ترى أستاذة القانون الدستوري، خبيرة القوانين البرلمانية منى كريم، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه يجب تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، بسبب ثغراته التي أظهرت التجربة البرلمانية منذ عام 2014 صعوباتها، مشيرة إلى أن العديد من الإشكاليات التي تعترض البرلمان تعود إلى القانون المنظّم لأعماله. وتوضح أنه لا يوجد ما يُفيد بتنظيم مساءلة رئيس البرلمان في الدستور أو النظام الداخلي للمجلس، كما لا يوجد ما يفيد بمساءلة رئيس الحكومة، بل ينصّ القانون الداخلي على عقد جلسات حوار مع الحكومة أو التوجه بأسئلة كتابية أو شفوية إليها. وتلفت إلى أن النظام الداخلي يشير إلى آلية سحب الثقة من رئيس البرلمان بأغلبية 109 نواب على الأقل، وهي الأغلبية نفسها التي تمنحه الثقة، مشيرة إلى أن الحوار القائم هو حوار سياسي بين الكتل، وهو أمر مطروح بالنظر إلى تركيبة البرلمان ومكوناته السياسية.
من جهتهم، يرى نواب "النهضة" أن طلب مساءلة الغنوشي لا يعدو كونه مزايدات سياسية تندرج في نطاق الهجمة غير المسبوقة التي تدخل في خانة العداء الأيديولوجي والمناكفة السياسية التي تستهدف الحركة ورئيسها، خصوصاً من قبل الحزب "الدستوري الحر" وأحزاب أخرى مصطفة في محاور إقليمية، تستهدف المسار الديمقراطي في تونس وتهدد السلم في ليبيا. ويشدّدون على أنه لا يوجد في النظام الداخلي للبرلمان ما ينصّ أو ينظم طريقة مساءلة رئيس البرلمان، تحديداً نشاطه الدبلوماسي وعلاقاته الخارجية.
ويبدو أن البرلمان التونسي محكوم بانقسام خارجي وآخر داخلي، بحسب القضايا والتحالفات والمرجعيات الأيديولوجية، فقد تجمع المواقف الخارجية من الدول والقضايا الدبلوماسية والصراعات الإقليمية أحياناً أحزاباً وكتلاً من المعارضة مع كتل الائتلاف الحاكم. مع العلم أن الموقف من الصراع الدائر في ليبيا يقوّض تماسك الائتلاف البرلماني الحكومي، إذ تتقاسم كتل "الإصلاح" و"المستقبل" و"حركة الشعب" (في الحكم) و"قلب تونس" (في المعارضة) الموقف الذي يدعمه "الدستوري الحر" المناهض لحكومة الوفاق الليبية، في وقت يختلف شريكا "الكتلة الديمقراطية" (الشعب والتيار الديمقراطي في الحكم) حول الموقف من دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فموقف "التيار الديمقراطي" يميل إلى دعم الشرعية الأممية بشكل يجعله في صف "النهضة" و"ائتلاف الكرامة".
وفي تعليقه على محتوى لائحة "الدستوري الحر"، يقول المحلل عبد المنعم المؤدب، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن من بين أسباب أزمة البرلمان اصطفاف كتله وانحيازها إلى أطراف ومحاور خارجية، بحجة المرجعيات الفكرية والأيديولوجية المحكومة بالارتهان إلى أطراف ودول أجنبية. ويضيف منتقداً لائحة "الدستوري الحر": "ماذا ستضيف هذه اللائحة إلى الموقف الرسمي التونسي الذي أعلنه الرئيس قيس سعيّد ومن قبله الراحل الباجي قائد السبسي برفض التدخل الخارجي في ليبيا ورفض استعمال التراب التونسي كقاعدة لأي تدخل؟ وما الذي سيضيفه تمرير اللائحة أصلاً والمصادقة عليها؟ فهي لا تعدو كونها موقفاً لا يلزم أحداً، حتى إن بعض الأحزاب والكتل لن يتغير ولاؤها ولا علاقاتها الخارجية".
ويرى المؤدب أن هذه اللائحة ترجمة واضحة لإضاعة الوقت والحياد عن دور البرلمان الدستوري والتشريعي والرقابي، فمن جهة يندّد البرلمانيون بتجاوز رئيس المجلس لصلاحياته وتدخله في الشأن الخارجي، وفي الوقت نفسه يصب محتوى اللائحة في صميم صلاحيات رئيس الجمهورية في ما يهم الملفات الخارجية. ويلفت إلى أن ما يحدث تحت قبة البرلمان يكشف نوايا إضعاف المؤسسة البرلمانية بسبب توجهات وتوجيهات خارجية مكشوفة، وبسبب ارتهان نواب وكتل لأجندات أجنبية هدفها الالتفاف على المسار الديمقراطي الفتي.
ويشهد البرلمان منذ بداية أعماله تعطيلاً يتسبّب به في غالبية الأحيان نواب "الدستوري الحرّ"، الذين لم يفوتوا جلسة من دون احتجاج وإثارة الفوضى، فمرة يقاطعون سير العمل بالصراخ والصياح وأخرى يعتصمون داخل قاعة الجلسات العامة وفي مكتب البرلمان، ليعتاد التونسيون على مشهد قطع الأعمال والاحتجاج وتبادل التهم والشتائم.
وتُتهم رئيسة "الدستوري الحر" عبير موسي من قِبل بعض الكتل بتعمّد تعطيل أعمال البرلمان وإثارة الشغب، وسبق أن دان رؤساء الكتل والمكتب ممارساتها. وسبق للغنوشي أن ذكر في تصريح سابق لـ"العربي الجديد" أن موسي تتعمّد التحريض على الفوضى وتعطيل عمل البرلمان والإساءة لصورة المجلس، معتبراً أن ما تقوم به من تعطيل هو جريمة موصوفة. وقال الغنوشي في حينه إن هناك نيّة مبيتة وتخطيطاً ممنهجاً من "الدستوري الحر" لتعطيل مؤسسة البرلمان وتقديم صورة مشوّهة عن النواب.
وفي سياق متصل، اتهم الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري" عصام الشابي، موسي، بالمسارعة لنجدة حفتر إثر اقتراحها مشروع لائحة برلمانية حول ليبيا. وقال الشابي في حوار تلفزيوني إن هذه اللائحة تبين أن "محور الإمارات في ليبيا يعاني صعوبات غير مسبوقة فرضت التعجيل ببعث رسائل له من تحت قبة باردو". وأضاف أن "موسي رأس حربة إضعاف العمل البرلماني"، لافتاً إلى "أن مهمتها إرباك الانتقال الديمقراطي والعمل على فشل التجربة الديمقراطية فثقافتها معادية للديمقراطية، ولا يمكن فصل ما تقوم به عما يُحاك لتونس في الغرف المظلمة الخارجية".