يبرز اندفاع جزائري لافت في الفترة الأخيرة باتجاه الجارة الجنوبية موريتانيا، ترجم عبر سلسلة مكثفة من الزيارات الوزارية إلى نواكشوط، وإسناد جزائري كبير للجهود الموريتانية في مواجهة وباء كورونا، وتعاون عسكري بين جيشي البلدين، فضلاً عن اتفاق للتنسيق الأمني في الأفق، والتمهيد لحضور اقتصادي كبير منذ فتح أول معبر بري تجاري بين البلدين في أغسطس/آب 2018.
وأدّت الجزائر في السبعينيات من القرن الماضي، دوراً مهماً في تركيز دعائم الدولة في موريتانيا، إذ ساعدت في تأميم مناجم الحديد، وإنشاء شركة النفط الموريتانية، كما تمّ صك الأوقية، وهي العملة الموريتانية، في السبعينيات في الجزائر. إلا أنّ العلاقات بين البلدين عرفت بعدها مرحلة من الفتور السياسي، نتيجة موقف نواكشوط من قضية الصحراء منذ منتصف السبعينيات، ولم تشهد تلك العلاقات تطوراً في الفترات اللاحقة بسبب الظروف الداخلية للجزائر من جهة، وعدم وضع موريتانيا من قبل صانع القرار الجزائري، ضمن دائرة الاهتمام الاستراتيجي. وقد برز ذلك بوضوح في عدم تسجيل أي زيارة لرئيس جزائري إلى نواكشوط منذ ثلاثة عقود.
تبحث الجزائر عن نقطة ارتكاز لها في غرب أفريقيا
لكن تحولاً كبيراً بدأ يحدث في الفترة الأخيرة على صعيد العلاقات بين البلدين، بعد توجيه الجزائر لدفة العلاقات مع نواكشوط باتجاه تحقيق شراكة سياسية واقتصادية وأمنية لها ما يبررها ضمن سياسات جديدة يتبناها الرئيس عبد المجيد تبون، وتدفع نحو مزيد من تركيز الجزائر لعلاقاتها مع دول الطوق والجوار في منطقة الساحل خصوصاً. وساهم إنشاء تبون لوكالة التعاون الدولي، المكلفة بوضع سياسات الجوار، والتي يترأسها الضابط السابق في جهاز الاستخبارات محمد شفيق مصباح، في رسم هذه السياسات الجديدة، خصوصاً تجاه موريتانيا. وتأخذ العلاقات مع نواكشوط اهتماماً كبيراً حالياً لاعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية. وتفسّر سلسلة الزيارات التي تقوم بها الوفود الوزارية الجزائرية إلى موريتانيا ذلك، إذ كان وفد وزاري رباعي يضم كلاً من وزراء الخارجية صبري بوقادوم والصحة عبد الرحمن بن بوزيد والمالية راوية عبد الرحمن والتجارة كمال رزيق، قد زار نواكشوط في يونيو/حزيران الماضي لبحث اتفاقات تعاون مشتركة. كما زار وزير الصحة الجزائري قبل أيام موريتانيا برفقة فريق صحي كبير، ليبقى هذا الفريق هناك لمدة أسبوعين للمساعدة في مواجهة فيروس كورونا. وأرسلت الجزائر ثلاث مرات شحنات مختلفة من الأدوية والمعدات الطبية لصالح المستشفيات الموريتانية. في حين عززت وزارة التعليم العالي في الجزائر من عدد المنح الجامعية للطلبة الموريتانيين. وتُضاف إلى ذلك، الزيارة الأهم لرئيس الأركان العامة للجيوش الموريتانية الفريق محمد بمبا، التي بدأها الثلاثاء الماضي إلى الجزائر واستمرت ثلاثة أيام، حيث تم الاتفاق على إطلاق مسار جديد من التعاون العسكري والتنسيق الأمني وتبادل المعلومات بين البلدين لمواجهة التحديات المشتركة، وتوريد معدات ومنتجات عسكرية جزائرية لصالح الجيش الموريتاني، فضلاً عن تكوين الكوادر العسكرية الموريتانية في المدارس والأكاديميات العسكرية المتعددة في الجزائر.
وإضافة إلى العامل الأمني المرتبط بسعي الجزائر إلى ضمان أمنها الحدودي، عبر تعزيز قوة الجيش الموريتاني لتعزيز تواجده في المناطق الحدودية بين البلدين، ولمنع تمدد نشاط الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، فإنّ عاملاً سياسياً آخر يفسر هذه الاندفاعة، ويتمثّل في بحث الجزائر عن نقطة ارتكاز لها في غرب أفريقيا في سياق سياساتها الجديدة الموجهة للمنطقة. لكن هذه الحسابات لا تخلو من ملامح تنافس سياسي قائم بين الجزائر والمغرب إزاء من يكون له الحضور الأكبر في المنطقة، خصوصاً أنّ موريتانيا لها صلة سياسية بقضية النزاع في الصحراء باعتبارها دولة ملاحظة (مراقبة) للنزاع لدى الأمم المتحدة. كما أنّ لها صلة جغرافية بمعبر الكركرات الذي كان محل نزاع أخيراً بين المغرب وجبهة البوليساريو.
وفي السياق، اعتبر الباحث الموريتاني في الشؤون السياسية، عبد الله ولد بيبة، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "موريتانيا ظلت منذ فترة طويلة محل صراع نفوذ بين الجزائر والمغرب بسبب قضية الصحراء، وهي القضية التي تحكّمت دائماً في طبيعة علاقات موريتانيا مع كل من الجزائر والمغرب". وأضاف أنّ "الاهتمام الجزائري الأخير بموريتانيا له علاقة أيضاً بتطور موقف نواكشوط باتجاه دعم الحل الأممي وابتعاده عن الطرح المغربي".
ظلت موريتانيا محل صراع على النفوذ بين الجزائر والمغرب
ويأتي العامل الاقتصادي ضمن الدوافع البارزة في المتغيّرات الجزائرية إزاء موريتانيا، إذ ترغب الجزائر في التوجه نحو الأسواق الأفريقية التي تعدّ موريتانيا بوابتها الرئيسة، والدخول في منافسة مع المغرب، صاحب الحضور الاقتصادي أيضاً في موريتانيا وأفريقيا. وهو ما يفسر فتح المعبر البري التجاري الأول بين البلدين والذي يربط بين تندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية، في أغسطس/آب 2018، ونقل معارض تجارية جزائرية إلى العاصمة نواكشوط، وتقديم تسهيلات كبيرة للشركات الجزائرية والموردين الراغبين في تصدير منتوجاتهم إلى موريتانيا وأفريقيا.
وفي السياق، رأى الخبير الاقتصادي الجزائري مراد ملاح، والذي سبق له العمل في نواكشوط ونواديبو في موريتانيا، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ الاهتمام الجزائري السياسي والاقتصادي بموريتانيا "مهم حتى ولو تأخر كثيراً". ولفت إلى أنّ "هذا البلد الجار يمثل بوابة بحرية لواردات مالي والنيجر وتشاد إلى غاية أفريقيا الوسطى"، مضيفاً: "قد يستصغر الناس هذه الأسواق لكنها دول تستورد كل شيء، وهذا عامل يعطي أهمية كبيرة لموريتانيا وموانئها". وأوضح ملاح أنّ "السوق الموريتاني فيه حركة يستمدها من مجاورة السنغال، فضلاً عن ارتباطات قبلية ممتدة في نيجيريا والعمق الأفريقي، إلى جانب وجود كثير من شركات التعدين العاملة في المنطقة التي تستقر في موريتانيا وتنطلق منها إلى دول الجوار".
وتحدث ملاح عن وجود "هيمنة مغربية واضحة على سوق الخضار والفاكهة والحليب ومشتقاته إلى جانب سوق الأدوية وفي قطاع البنوك والتأمينات، وهذه قطاعات يمكن أن تستفيد منها المنتجات الجزائرية التي تملك جودة وتنافسية مهمة، وخصوصاً قطاع صناعات الأجهزة الكهربائية المنزلية".