بدت الذكرى الـ31 لتحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو/أيار 1990، شاحبة أكثر من أي وقت مضى، مع اتجاه البلد نحو مزيد من التفكك، وتلاشي الآمال بعودة اليمن إلى الحقبة التي أعقبت توحد شطريه الشمالي والجنوبي، الذي تعرّض لاحقاً للنكسات. وأطلقت الحرب الأخيرة التي اندلعت في سبتمبر/أيلول 2014، العنان لمشاريع فوضوية أطاحت مفهوم الدولة، وجهدت لإعادة اليمن عقوداً إلى الوراء. واحتفل اليمن، أمس السبت، بالذكرى الـ31 لتحقيق الوحدة، على وقع ظروف عصيبة، مع سعي المليشيات الحوثية لرسم معالم التشطير بالسيطرة على مأرب، وإحكام قبضتها على كامل جغرافيا الشمال اليمني. وهي خطوة قد تقود عملياً إلى تعاظم النزعات الانفصالية جنوباً، وتفتح شهية "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي يتحيّن الفرصة لمحاكاة تجربة الحوثيين، واتخاذ خطوات جريئة تجعله أقرب لتحقيق حلم تشطير البلد مجدداً.
وساهم التآكل الذي تعيشه السلطة الشرعية المعترف بها لصالح الكيانات الجهوية والطائفية، في وصول اليمن إلى هذا الوضع. وخلافاً للمليشيات الرئيسية الطامحة لحكم البلد شمالاً وجنوباً كسلطة أمر واقع، أثار ترهل حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي مطامع فصائل أخرى. في السياق، أعلن طارق صالح، نجل شقيق الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تشكيل ما يسمى بـ"المكتب السياسي للمقاومة الوطنية"، كحامل سياسي لقواته المرابطة في الساحل الغربي، ما سيجعلها تحكم الشريط الساحلي الواقع على البحر الأحمر، الممتد من المخا، غربي تعز إلى تخوم مدينة الحديدة. وتبدو حضرموت مهيأة للالتحاق بهذا السيناريو، وخلافاً لطموحات سابقة لإعلان إقليم مستقل يكون بمنأى عن المليشيات المسلحة بما فيها الجنوبية، تمتلك المحافظة الغنية بالنفط شرقي اليمن، كافة المؤهلات الاقتصادية لإدارة الحكم الذاتي بمعزل عن أي سلطة أخرى، نظامية كانت أو مليشياوية.
وعجزت الحكومة الشرعية، التي يُفترض بها أن تحمل راية الدفاع عن اليمن الاتحادي، عن حماية أحد أهم مكتسبات اليمنيين في العصر الحديث، فبعد إخفاقها في احتواء النزعات الانفصالية بعد إشراك "المجلس الانتقالي" في حكومة محاصصة ليكون بمقدورها تأدية مهامها من داخل عدن، بعدما عادت منذ شهرين إلى المنفى في العاصمة السعودية الرياض. كما تبدو مهددة بفقدان آخر وأبرز معاقلها شمالاً، بعد تصاعد الهجوم الحوثي على مدينة مأرب. وفي ظل استمرار تآكل مؤسسات الدولة الهشة، لا يبدو أن اليمن سيستعيد عافيته على المدى القريب، كما أن العودة إلى مرحلة ما قبل الوحدة اليمنية، أمر مستبعد وفقاً لخبراء، نظراً للعقبات القانونية والسياسية التي تحول دون حصول ذلك، فضلاً عن حرب مستعرة لا أفق معلوماً لنهايتها.
تبدو الحكومة اليمنية مهددة بفقدان آخر معاقلها في حال سقوط مأرب
بالتالي، تحوّلت الوحدة اليمنية إلى مجرد اسم على ورق، وفي الذكرى الـ31 لتحقيقها، غابت المظاهر الاحتفالية، كما غابت الأعلام الوطنية التي كانت ترفرف فوق المقرات الحكومية وشوارع المدن الرئيسية قبل حلول الذكرى بأيام. ولم يعد ما يجمع اليمنيين من ذكرى الوحدة، سوى الإجازة الرسمية التي تمنحها وزارتا الخدمة المدنية شمالاً وجنوباً لموظفي الدولة. ونفت وسائل إعلام انفصالية أخيراً، أن يكون وزير الخدمة المدنية الموالي لـ"المجلس الانتقالي"، عبدالناصر الوالي، قد وجّه بمنح الموظفين إجازة رسمية، بل نُسبت إليه تصريحات يهاجم فيها العيد الوطني ويصفه بأنه "ذكرى احتلال الجنوب"، في إشارة لحرب صيف 1994 التي شنّها النظام السابق على الانفصاليين.
ومع صعوبة إقامة أي مهرجانات، ولو رمزية، في مدن الجنوب وكذلك في مأرب التي تشهد معارك ضارية على حدودها، اقتصرت المظاهر الاحتفالية بالذكرى على وسائل الإعلام الرسمية التابعة للحكومة الشرعية، والتي أذاعت، مساء أول من أمس الجمعة، كلمة لرئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، فضلاً عن إعلانها عن تلقيه سلسلة برقيات من قادة وزعماء دول عربية وأجنبية. لكن البرقيات خلت من أي تأكيدات لوقوف القادة والزعماء مع وحدة اليمن، كما جرت العادة في سنوات سابقة للحرب، بل أجمعت غالبية الرسائل التي أذاعتها وكالة "سبأ" الخاضعة للشرعية، على "طيب الأماني لليمن بالأمن والاستقرار"، في موقف يشير إلى أن الإجماع الدولي يتركز على إنهاء جهود الحرب في المقام الأول.
في صنعاء والمناطق الخاضعة لنفوذ جماعة الحوثيين شمالي البلاد وغربها، أقرّ الحوثيون هذا العام برنامجاً للاحتفاء بذكرى الوحدة بعد 5 سنوات من المواقف الضبابية تجاه المناسبة. ووفقاً لسكان في العاصمة، فقد تم نصب بعض الأعلام الوطنية فوق عدد من المقرات الحكومية. ووصفت "اللجنة العليا للاحتفالات" التابعة للحوثيين، الوحدة بـ"المناسبة الوطنية الأبرز في تاريخ اليمن المعاصر وعلى مستوى الوطن العربي". وأشارت إلى أنها كانت "حصيلة لمسيرة طويلة من النضال ومحطات اللقاء والحوار بين أبناء الشعب اليمني في شطري الوطن، منذ قيام الثورة اليمنية المباركة ونيل الاستقلال في 1967 حتى عشية يوم 22 من مايو عام 1990".
وفي ظل مخاوف من الأهداف الخفية للسيطرة على مأرب والتي تهدف لإعادة رسم الحدود الشطرية التي كانت قائمة قبل عام 1990، حاول الحوثيون دحض هذه النظرية، عندما دعوا إلى "إبراز ذكرى الوحدة سياسياً وإعلامياً والتركيز على الجوانب الوطنية والإنسانية والأخلاقية للمنجز الوطني القومي، وضرورة الحفاظ عليه بأي شكل من الأشكال كحق لكل أبناء الوطن اليمني الكبير".
وعلى الرغم من انحسار المظاهر الاحتفائية وانهيار الوحدة كدولة ومفهوم، وخصوصاً في المحافظات الجنوبية التي قاد فيها "المجلس الانتقالي" حملة شيطنة للوحدة وعمل على تأجيج مشاعر السكان ضدها، وضد كافة المنحدرين من المحافظات الشمالية باعتبارهم "نهبوا ثروات الجنوب"، إلا أن خبراء يؤكدون أن وحدة الشعب اليمني ما زالت باقية. في هذا الإطار، يرى الناشط أكرم العديني، أن "الوحدة اليمنية تعرضت للابتزاز السياسي من قبل جميع الأطراف، وأن تراجع المظاهر الاحتفائية في المدن لا يعني بالضرورة أن الوحدة قد تم طمسها جذريا من قلوب اليمنيين". ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "يمكن القول إن الأطراف والمليشيات الجديدة قد فشلت بدرجة كبيرة في هدم النسيج الاجتماعي وإلغاء التعايش، إذ تحتضن غالبية المدن خليطاً من السكان من مختلف المناطق والتوجهات والخلفيات الجهوية، وهذه هي الوحدة الحقيقية، وحدة الشعب".
إلا أنه على الرغم من ذلك، لا يمكن التنبؤ بالمستقبل الذي ستؤول إليه الأوضاع في اليمن، خصوصاً مع استمرار النزاع المتصاعد منذ أكثر من ست سنوات، الذي يُبعد أي تصورات للعملية السياسية أو شكل الدولة اليمنية المرتقبة. وفيما يخص مشروع إعادة انفصال الجنوب عن الشمال، يعوّل "المجلس الانتقالي" الذي تدعمه الإمارات، على أن تؤدي سيطرة الحوثيين على مأرب إلى طرح موضوع الانفصال معهم للنقاش بشكل رسمي. بالتالي تصبح محافظات اليمن الشمالي سابقاً تحت سيطرة الحوثيين، وتصبح مدن الجنوب تحت سيطرة "المجلس الانتقالي".
ويعتقد الانفصاليون أن جماعة الحوثيين هي الطرف الشمالي الأكثر قبولاً بمشروع الانفصال، وتعود هذه القناعة إلى رسائل غزل وتعاطف ضمني سابق بين الجانبين، فضلاً عن إمكانية وجود دور إيراني أو روسي لتنسيق المواقف، خصوصاً أن طهران دعمت الطرفين قبل سنوات. وعلى الرغم من الإشارات المتكررة التي يبعثها "الانتقالي"، وآخرها في الخطاب الذي ألقاه رئيس المجلس عيدروس الزبيدي مساء الخميس الماضي، تحديداً بتشديده على "الشراكة مع التحالف العربي في مواجهة المد الإيراني والمشاريع الإرهابية في حال تم دعم الانفصال"، إلا أنه يبدو من المستبعد أن تتورط الرياض بدعم الانفصال في هذه الظروف. أولوية الرياض حالياً تتركز على إعادة الاستقرار للشمال اليمني بدرجة رئيسية، بما يضمن أمن شريطها الحدودي.
وبعيداً عن الموقف الدولي، تبدو مقومات الانفصال لدى "المجلس الانتقالي" معدومة في الوقت الراهن، ففي وقت يبرع الانفصاليون في تقديم هيكل دولة مستقلة على الورق، يجدون أنفسهم في مأزق مع تلاشي الخدمات العامة. وهو ما يجعلهم يكررون الدعوات للحكومة الشرعية بالعودة إلى عدن لممارسة مهامها. وبما أن كل الوقائع تشير إلى أن مناقشة فكرة الانفصال سيتم ترحيلها إلى فترة ما بعد الحرب، لا تزال الرئاسة اليمنية تراهن على مشروع الدولة الاتحادية، كحل وسط يلبي طموحات كافة الأطراف والمكونات السياسية والجهوية شمالاً وجنوباً.
تبدو حضرموت قادرة على تشكيل كيان خاص بها في ظلّ تعدد الكيانات الانفصالية
وفي كلمته بمناسبة الذكرى الـ31 أقر هادي بأن الوحدة اليمنية "تعرضت للنهش والتهشيم" من قبل طرفين رئيسيين، الأول هو الانقلاب الحوثي الذي وصفه بأنه "ضرب الوحدة الوطنية في الصميم وأعاد إنتاج الصورة النمطية للعنصرية ومنهجية التسلط الفئوي". أما الطرف الثاني فأشار إليه بأنه "من اختار طريق التشرذم والتمترس وراء المناطقية والشحن المناطقي ونشر الكراهية"، في إشارة لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي". وفي نظر هادي، فإن مشروع الدولة الاتحادية، الذي ينص على تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم (4 في الشمال و2 في الجنوب)، كفيل بأن يعيد الاعتبارات لليمنيين ويضمد الجروح ويؤسس لمستقبل أكثر استقراراً وأمناً ويستوعب تنوعهم، ليضعها في مستقبل بعيد عن دوامة الصراعات والانقسامات والتهميش، لكن خبراء، ومنهم الباحث والمحلل السياسي اليمني عبدالناصر المودع، يرون أن تلك الفكرة "غير واقعية" بالمرة.
ويقول المودع لـ"العربي الجديد"، إن "الدولة الاتحادية هي فكرة غير واقعية، وقد تم إخراجها بهدف العودة عن وحدة 22 مايو، حين كانت النوايا السيئة هي المحركة لهذه الفكرة". ويضيف: "بعد الحرب والفوضى التي حدثت في اليمن، ستكون الدولة الاتحادية بأي صيغة جديدة كدولة من إقليمين أو ثلاثة، عبارة عن صيغة رسمية لتفكيك اليمن واستدامة الحرب والسيطرة الخارجية بصيغة أخرى". ويعتبر المودع أن كل من يعرف اليمن حاضراً وماضياً "يدرك أن الاستقرار لن يأتي إلا بحكومة مركزية قوية قادرة على هزيمة واحتواء القوى المفككة لليمن، بما فيها سلطة هادي والمنضوون تحتها، واستعادة السيادة بمنع الدول المتدخلة من العبث باليمن". ويلفت إلى أن هذا السيناريو سيدفع الأطراف جميعها للعمل على عدم عودة اليمن إلى وضعه الطبيعي، وإبقاء الحرب والفوضى حتى تحدث اختراقات جوهرية تغير من هذا المشهد.