مرّ نصف سنة على تكليف الرئيس سعد الحريري في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2020 بتشكيل الحكومة اللبنانية ولا يزال الصراع سيّد المشهد، رغم كثرة الحراك الخارجي والمبادرات الداخلية، ولا سيما التي يقودها رئيس البرلمان نبيه بري، والبطريرك الماروني بشارة الراعي، علماً أنّ هذه المهلة كان طلبها الحريري يوم فرض نفسه مرشحاً أوحد للمنصب في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي من الفرقاء السياسيين بتجميد خلافاتهم لمدة 6 أشهر فقط من أجل تشكيل حكومة "مهمّة" تضع حدّاً للانهيار، وتنهض بالبلاد اقتصادياً انطلاقاً من المبادرة الفرنسية.
ومرّت "الفترة الذهبية" التي كانت منتظرة ولم تبصر الحكومة النور حتى الآن، فسقطت الدعوة بمرور الزمن، مقابل وجود حكومة تصريف أعمال يعتكف رئيسها (حسان دياب) منذ فترةٍ، في ظلّ الظروف الحساسة التي يمرّ بها لبنان، في حين يصادف اليوم أيضاً مرور شهرٍ على آخر لقاء جمع الرئيسين ميشال عون والحريري يوم الإثنين 22 مارس/آذار الماضي في قصر بعبدا الجمهوري، والذي سجل فشلاً جديداً في الوصول إلى تفاهم مشترك بعد مجموع 18 لقاء كانت بدايتها "إيجابية"، قبل أن تتبدّل الأجواء وتزداد حدة الاتهامات المتبادلة بالتعطيل و"الكذب" وتزوير الوقائع وتفعيل الشروط المضادة، ورفض التنازل.
ويترأس "الثلث المعطل" قائمة العراقيل التي تحول دون تشكيل الحكومة، بحيث يتهم الحريري عون بالسعي وراءه، ويبادله رئيس الجمهورية بالنفي، عدا عن الخلافات التي تعود وتتجدّد حول عدد الوزراء، وكيفية توزيع الحقائب الوزارية على الأحزاب التقليدية، وإن بصورة مبطنة، بهدف تلميع شعار حكومة المستقلّين الاختصاصيين، علماً أنّ العقدة الحقيقية تبقى عند خطّ الحريري– جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية)، بحيث يشدد مصدر مطلع على الملف الحكومي، لـ"العربي الجديد"، اليوم الخميس، على أنّه "سواء انقطع التواصل أو بقي اللقاء قائماً بين الرجلَيْن، فلا حكومة".
وبدأ الحريري، اليوم الخميس، جولة خارجية جديدة هذه المرّة من روما، يتصدّر جدولها اللقاء مع البابا فرنسيس، علماً أنّ الزيارة طلبها الحريري شخصياً، وأحضر معه إلى العاصمة الإيطالية وفداً إعلامياً لتغطية وقائع الحدث، بعكس جولاته السابقة، في مؤشرٍ، يؤكد المصدر نفسه لـ"العربي الجديد"، أنه "مهمّ وفيه تعويل كبير على أهمية الاجتماع، وإمكانية أن يكون له دور في تحديد مصير ومسار المرحلة المقبلة".
وتمنى المسؤول الإعلامي في البطريركية المارونية وليد غياض، في اتصال مع "العربي الجديد"، أن تحمل الزيارة "نتائج إيجابية تنعكس على الوضع الداخلي، على اعتبار أنّ تشكيل الحكومة هو مدخل لجميع الحلول"، ولكنه يشدد، في المقابل، على أنه "يجب عدم تحميلها (الزيارة) أكثر ممّا تحمله".
وبينما يرفع البطريرك الراعي شعار "المؤتمر الدولي لأجل لبنان برعاية أممية"، ويلعب دوراً بارزاً على الخط الحكومي، يؤكد غياض أنّ البطريرك الماروني "يحاول تقريب وجهات النظر لتسهيل عملية التشكيل والضغط على المعنيين في هذا الاتجاه، ويبذل في سبيل ذلك الكثير من الجهود التي تترجم بالاتصالات والمشاورات واللقاءات"، معتبراً أنّ "أبرز العراقيل تكمن في انعدام الثقة، وهنا الأساس، والحاجة الملحّة إلى إعادة تجديد هذه الثقة ببعضنا وبوطننا، ووجود إرادة حقيقية وجدية للعمل، بما تتطلبه المصلحة الوطنية فقط، من دون أي ارتباطات خارجية".
وأضاف غياض: "لا نعتقد أنّ هناك استحالة لتشكيل الحكومة، ولكن ما يحصل راهناً اتهامات متبادلة وتقاذف كرة التعطيل، وهذا يستدعي استئناف اللقاءات المباشرة بين عون والحريري وتصميماً على تشكيل الحكومة"، مشيراً إلى أنّه "بالظاهر لمسنا أن لا أسباب معقدة جوهرية تحول دون التأليف، وعلى الرئيس المكلف أن يكون حاضراً أكثر في موضوع التشكيل، ومصمّماً على مواصلة وضع التصوّر للحكومة ومناقشته مع الرئيس عون، كما يحصل عند تشكيل الحكومات".
وفي وقتٍ كان الحريري يغادر بيروت ويتحضّر للقاء البابا، سجل استقبال البطريرك الماروني بشارة الراعي، أمس الأربعاء، النائب جبران باسيل، في لقاء وُصفت أجواؤه بـ"الإيجابية"، وخرج منه باسيل بموقفٍ فضل فيه ترك التفاصيل السياسية لكلمته المتلفزة المباشرة يوم السبت، واكتفى بتشبيه نفسه بـ"المسيح"، بقوله: "لو السيد المسيح تنازل لما كانت هناك مسيحية.. قول الحق والحقيقة يخلصنا، وسنبقى نشهد للحق مهما كانت الكلفة علينا".
من بكركي: لو السيد المسيح تنازل لما كانت هناك مسيحية... قول الحق والحقيقة يخلصنا وسنبقى نشهد للحق مهما كانت الكلفة علينا... أما التفاصيل السياسية فنتحدث فيها السبت 11 قبل الظهر
— Gebran Bassil (@Gebran_Bassil) April 21, 2021
ويؤكد مصدر مقرّب من باسيل، لـ"العربي الجديد"، أنّ "كلمة السبت سيكون وقعها قوياً ومدوّياً، ويتطرق فيها إلى الملف الحكومي من كل زواياه، ويفصّل فيها خارطة العرقلة ومخطط العزل الذي يتعرّض له، وستحمل رسائل إلى الحلفاء كما الخصوم"، وذلك قبل توجهه إلى روسيا نهاية الشهر الجاري. وهي جولة ربطت بزيارة الحريري الأخيرة إلى موسكو، في محاولة روسية لإعادة التواصل بين الرجلين.
هذه العناوين كلّها لا يعتبرها المنسّق السّابق لقوى الرابع عشر من آذار فارس سعيد السبب الأساسي وراء عدم تشكيل الحكومة، وقال، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الأزمة ليست داخلية، أو مرتبطة بالدستور والنظام والعلاقات بين عون والحريري، بل تتعلق بترتيب أوضاع المنطقة، حيث إنّ الملف الحكومي ورقته بيد إيران، ولن تتخلى عنها إلّا في الوقت المناسب بالنسبة إليها، وعلى طاولة الولايات المتحدة الأميركية وليس لبنان".
ولفت سعيد إلى أن "لا أحد يتكلم جدياً عن تشكيل الحكومة، والكل عاجز عن القيام بأي خطوة رغم حديثه المستمرّ عن أهمية التشكيل في ظلّ الأزمات القائمة، لأنّ أصل المشكلة معروف"، مشدداً على أنّ "مرحلة الـ6 أشهر كانت استكمالاً لسيناريو الانهيار الشامل على مختلف المستويات، وتدميراً لكافة المؤسسات العامة والخاصة، وضرباً للقطاعات الاقتصادية، السياحية، الصحية، المصرفية، المالية، التربوية، الاستشفائية، وغيرها، وللأسف نحن أمام واقع إجرامي في عدم تشكيل الحكومة، وكل ما يحصل اليوم هو محاولة لذر الرماد في العيون وبالإيحاء بأن المشكلة داخلية، بينما تكمن في احتلال إيران للبنان من خلال سلاح "حزب الله" الذي يمنع قيام دولة لبنان".
ستّة أشهر تحوّل لبنان فيها إلى ساحة استقبال الدبلوماسيين وكبار المسؤولين في عددٍ من دول العالم الذين توحّدوا جميعهم خلف مهمة عنوانها الأساسي حثّ القوى السياسية اللبنانية على تشكيل حكومة اختصاصيين تحمل برنامجاً إصلاحياً كشرط أساسي لعودة الدعم المالي الخارجي، والتنبيه إلى كارثة غرق لبنان في حال استمرار الصراع المترافق مع أزمات معيشية واقتصادية حادّة، وتدهور تاريخي للعملة الوطنية.
وتنازلت الدول المعنية بالملف اللبناني عن بعض شروطها الحكومية القاسية، على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لتفهّمها التركيبة اللبنانية، بعدما طالت المراوحة وتعطيل المؤسسات، وقبلت واشنطن بمبدأ التسوية، لا بل اعتبرته الطريق الوحيد في المرحلة الراهنة لحلّ الأزمة وتشكيل حكومة جديدة تعمل انطلاقاً من المبادرة الفرنسية، فكان التأييد واسعاً لمبادرة رئيس البرلمان نبيه بري وحراك البطريرك الماروني بشارة الراعي الحكوميين.
وبالتزامن مع عودة الحراك الدبلوماسي الخليجي، الذي "قاطع" لبنان فترة، والنشاط البارز سعودياً على خطّ الملف الحكومي، كان النائب باسيل يتعرّض لإقصاء شبه شامل من برامج اللقاءات التي شملت مختلف القوى السياسية التقليدية، وخصوصاً عربياً من جانب مصر، بغض النظر عن الموقف الأميركي، وما ترافق مع إلغاء اللقاء الافتراضي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والحديث عن محاولات لصهر رئيس الجمهورية للقيام بجولات على دول القرار، أو عقد اجتماعات مع مسؤولين بارزين باءت بالفشل في ظلّ ما يُحكى عن تحميله المسؤولية الكبرى في التعطيل الحكومي، وتكاليف العقوبات الأوروبية بعد الأميركية التي سيدفع، سواء هو شخصياً أو مقرّبون منه، ثمنها قريباً.
في المقابل، حملت فترة الستة أشهر عنواناً أبرز يتمثل في جولات الحريري الخارجية التي أشعلت الخلاف بينه وبين فريق رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي اتهمه بتضييع الوقت بزيارات لا فائدة منها، و"احتجاز الحكومة في جيبه"، في حين يصرّ الرئيس المكلف على أهمية هذه اللقاءات التي ستترجم مساعدات مالية ودعماً مباشراً للنهوض بلبنان فور تشكيل الحكومة، كما يردد.
في موازاة ذلك، شكلت قضية مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون، المحسوبة على رئيس الجمهورية، والتي تواصل مداهماتها لشركة "مكتف" للصيرفة ربطاً بملف تهريب الأموال إلى الخارج، رغم قرار النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، المحسوب بدوره على "تيار المستقبل" (يتزعمه الحريري)، عزلها، ومقررات مجلس القضاء الأعلى، مادة خلاف جديدة أبعدت المسافات أكثر بين عون والحريري، ولا سيما مع نزول مناصري الفريقين إلى محيط قصر العدل للتظاهر، إذ تطورت المواجهة إلى تسجيل إشكالات "ميدانية" ومشادات كلامية على مستوى مسؤولين وجيوش إلكترونية.