حرب أوكرانيا الغائبة سيرتها عموماً منذ فترة، عادت بعد مرور نصف سنة عليها إلى واجهة المداولات من زاوية الخشية من المآل الذي يمكن أن تنتهي إليه. التقديرات تشير إلى أنها تتجه نحو تصعيد نوعي يوسّع دائرتها، ويهدد بانفلاتها وربما بخروجها عن السيطرة.
التطورات الميدانية الأخيرة التي تمكنت خلالها القوات الأوكرانية من تسجيل نقاط لصالحها بفعل الأسلحة المتقدمة التي حصلت عليها، عزّزت التوقعات حول رد روسي قريب من عيار فائض القوة النارية التي تتمتع بها.
ومن باب التحوّط لمثل هذا الاحتمال، تنوي إدارة بايدن الإعلان عن دعم عسكري جديد لأوكرانيا بحوالي 3 مليارات دولار، بحيث يتزامن ذلك مع مناسبة العيد الوطني الأوكراني الذي يصادف موعده اليوم الأربعاء، كما مع نهاية الأشهر الستة من الحرب .
ثم جاء حادث تفجير السيارة المفخخة في موسكو، يوم الأحد الماضي، والذي استهدف داريا دوغينا ابنة المنظّر القومي الروسي ألكسندر دوغين المقرب جداً من الرئيس فلاديمير بوتين، ليعزز احتمالات التصعيد من جانب موسكو، خاصة وأنه يطرح علامات استفهام حول فرضية ضلوع أوكرانيا فيه. توقيت العملية حمل ضمناً ولو من باب الظن، على ربطها بكييف وبما شكل إحراجاً ضمنياً لواشنطن.
وأدانت وزارة الخارجية الأميركية التفجير من دون أن تتبنى النفي الأوكراني صراحة وبما يترك المجال واسعاً للشك بوجود دور أوكراني، إذ ليس بالإمكان في ضوء ظروف الحادثة الجزم باستبعاده.
في ضوء هذا المشهد، ازداد التوجس من انتقال الحرب إلى طور آخر يتجاوز ميدانها الحالي. حيث كان مثل هذا الاحتمال قد أخذ شحنة من الزخم بعد تحذير وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، قبل ثلاثة أيام، والذي جاء بلغة الإنذار من أنّ الولايات المتحدة "باتت على حافة الحرب مع روسيا والصين، لأسباب نحن تسببنا وإن جزئياً في خلقها، ومن دون أي تصور حول كيف يمكن أن تنتهي أو إلى ماذا يُفترض أن تؤدي".
كلام كيسنجر الحافل بالغمز من زاوية سياسة بايدن تجاه موسكو وبكين، يشكّل ذروة الجدل الدائر منذ فترة بين الصقور والمعتدلين، في التعامل مع الملفين الروسي والصيني. وفي مقابل تشدد الفريق الأول الراجحة كفته، كانت بعض الأوساط المتمرسة بشؤون السياسة الخارجية تلفت إلى أهمية التعاطي مع حرب أوكرانيا بصوة لا تؤدي إلى "إهانة" روسيا.
المطلوب كان حسب هذه الرؤية ألا يتم تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية متقدمة وبعيدة المدى، بحيث لا يؤدي ذلك إلى استدراج موسكو التي "لن تستسلم"، إلى تصعيد محفوف بمخاطر الاحتكاك وربما المواجهة مع حلف "الناتو".
بعض هذه الأسلحة تردد أن كييف حصلت عليها من واشنطن بعد تردد، وبما مكّنها من استهداف مواقع روسية في شبه جزيرة القرم والبحر الأسود، وبالتالي توسيع ساحة القتال، خصوصاً وأنّ ذلك يحصل في ظل غياب المبادرات الدبلوماسية التي ساهمت موسكو في انسداد الطريق إلى هذا الخيار حتى الآن.
وازدادت المآخذ على الإدارة حين تعمدت ومعها الكونغرس تسخين الجبهة مع الصين حول موضوع تايوان، في لحظة كان الأحرى بها أن "تخفف التوتر" مع بكين لا أن تدفعها أكثر نحو موسكو، لا سيما وأنّ طبخة تايوان ليست على نار حامية "ولا يجب أن تكون" في زمن حرب أوكرانيا.
ومن هنا كانت الردود الناقمة وخاصة في صفوف القوى الليبرالية والديمقراطية، على زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان قبل أسبوعين والتي لحقت بها زيارات لوفود من الحزبين في مجلسي الكونغرس.
بخلاف سياسة بايدن الداخلية التي حققت إنجازات مهمة في الأشهر الأخيرة ساهمت في تحسين رصيده، كان وما زال يؤخذ على سياسته الخارجية أنها "متذبذبة في تحديد وجهتها وغاياتها".
إذ إنّ إدارته لم تخرج بعد من التخبط منذ عملية الانسحاب الفاضحة من أفغانستان، باستثناء نجاحها في شد عصب "الناتو" في مواجهة موسكو بعد اجتياح أوكرانيا. وحتى هذا "الإنجاز" ما زال تحت الاختبار. وثمة خشية من أن تخرّب عليه من خلال التمادي في تأجيج النزاع مع الصين بدلاً من احتوائه، وفق ما تقوله القراءات الرصينة.