لا يستطيع أحد الجزم ما إذا كان اليوم الأحد سيكون آخر محطات اختبار المرحلة الانتقالية في تونس، بَل تُرجِّح أغلب الآراء أن يُؤجّل حسم هوية رئيس الجمهورية إلى دورة انتخابية ثانية للفصل بين المرشحَيْن الأبرز للرئاسة، الرئيس المنتهية ولايته منصف المرزوقي، ورئيس حزب "نداء تونس" الباجي قايد السبسي وفق أكثر المتابعين، على الرغم من معارضة بقية المرشحين لحالة الاستقطاب الثنائي واتهام الإعلام بفرض هذا الأمر الواقع على السباق الرئاسي التونسي، في إقصاء واضح لحظوظ البقية بحسب رأيهم.
وفي كل الحالات يُشكّل موعد اليوم الأحد امتحاناً جدياً لعمق الممارسة الديمقراطية لدى النخب السياسية والجماهير التونسية، خصوصاً بعد النجاح الباهر الذي تحقق في استحقاق الانتخابات التشريعية، ومسارعة كل الجهات التونسية إلى القبول بنتائج الانتخابات حتى قبل صدورها، ومباركة حركة "النهضة" التي حلّت ثانية لحزب "نداء تونس" الذي تصدّر نتائج الانتخابات، ما أسس لتقاليد جديدة في العمل السياسي التونسي.
إلا أن الحملات الرئاسية اتسمت بكثير من التشنج والاحتقان من دون تجاوز حدود خطيرة، كما شهدت انخراطاً شعبياً أوسع من التشريعية، ما يبرّر بعض المخاوف من تجاوزات ممكنة ستكون على محك ليلة الأحد وصباح الإثنين بعد صدور النتائج.
وتبدو امتحانات اليوم كثيرة ومتعددة ومنوطة بأكثر من جهة، أمنية وتنظيمية وسياسية وشعبية، من خلال تحديد نسبة المشاركة في هذا الاستحقاق الهام الذي أظهر حتى الآن ولعاً عاماً، خصوصاً مع الطابع الشخصي الذي ميّزته أسماء المرشحين وخطاباتهم.
وبذل أبرز المرشحين خلال الأيام الأخيرة خصوصاً، جهداً واضحاً لتحديد السمات الخاصة بمجالهم السياسي، ومحاولة التميّز عن بقية المرشحين، ورسم صورة نهائية في مخيلة الناخبين قد تكون أساسية في يوم الاقتراع.
فالمرزوقي الذي يترشّح لولاية رئاسية ثانية، شدّد منذ بداية حملته على استراتيجية واضحة تقوم على الانتصار للثورة في مواجهة ما أسماه عودة الاستبداد ومقاومة التغوّل لمنع منافسه المباشر قايد السبسي من الوصول إلى القصر الرئاسي، لأن هذا سيتسبب في نظره بغياب التوازن اللازم للمشهد السياسي.
المرزوقي بذل جهداً كبيراً لكي تشمل زياراته أغلب محافظات البلاد بمدنها المتفرّعة، على الرغم من إعلانه المتأخر عن ترشحه، ووجّه خطابه في أغلب الأحيان للشباب وجمهور الثوار، محاولاً إعادة الأمل لفئات عبّرت عن خيبتها من مسار الثورة التونسية. وبلغ هذا الخطاب بالمرزوقي إلى حد اعتبار قصر قرطاج "الحصن الأخير للديمقراطية"، وهو خطاب يلاقي كما يبدو تجاوباً من فئات كثيرة من الناخبين، بدليل الاجتماعات الشعبية الكبرى التي أشرف عليها، وتقَدُّمه المطّرد في عمليات سبر اتجاهات التصويت بحسب بعض الخبراء والمتابعين.
ولم يتخلَ وهو في قرطاج عن سماته الأبرز التي ميّزته منذ كان في المنفى الفرنسي مناضلاً حقوقياً ومدافعاً عن الديمقراطية، وهو ما جلب إليه بعض الانتقادات بسبب كسره الصورة النمطية للرئيس وعدم تشبثه بالحسابات السياسية التي يقتضيها الموقع بحسب منافسيه، ولكنه حاول في الأيام الأخيرة وفي تطور ملحوظ عدم إنكار هذه التوجه مع التشديد على أنه ليس خطيئة، ولم يكن فساداً أو ممارسات لا ديمقراطية.
ويتقدم المرزوقي إلى هذه الانتخابات مدعوماً من بعض أصدقاء الأمس، الذين غادروا حزبه وأسّسوا أحزاباً جديدة، ولكنهم عادوا لمناصرته في هذا الاستحقاق "المصيري" من وجهة نظرهم، كما يحظى أيضاً بدعم واسع من أغلب قواعد حركة "النهضة"، على الرغم من تقليل بعض القيادات من ذلك وإصرارها الرسمي على أن الحركة لا تدعم أحداً.
في المقابل يبدو منافسه الأقوى قايد السبسي مطمئناً إلى تقدّمه في نوايا التصويت بحسب متابعين، محاولاً مدّ جسور بين شكل التصويت في الانتخابات التشريعية إلى الرئاسية، ومعتمداً على القراءة ذاتها التي تقوم على التأكيد على فشل حُكْم الترويكا في إدارة البلاد، ومركزاً على "ضرورة عودة الدولة القوية" لحل مشاكل التونسيين المتراكمة وخصوصاً الاجتماعية والاقتصادية منها.
كما يعتمد قايد السبسي على خطاب جامعٍ ضدّ الإقصاء نجح من خلاله في تأسيس حزب كبير من جهة، والفوز بأغلبية نسبية في التشريعية من جهة أخرى، لأنه يلقى تجاوباً من فئات واسعة من التونسيين الذين كانوا في صلب المنظومة القديمة اضطراراً أو اختياراً، ولم تنجح أحزاب الترويكا في استدراجهم باستثناء حركة "النهضة" التي غيّرت في خطابها في الفترة الأخيرة ومدت جسور تواصل معهم، برفضها قانون العزل السياسي وتبنيها خطاباً يحاول أن يتجاوز الماضي وينظر الى المستقبل، مع ما يلاقيه هذا الخطاب من انتقادات كبيرة ممن يعتقدون بناءً على تجارب ثورات سابقة أن المصالحة لا تكون إلا بعد المحاسبة.
وبعيداً عن أهمية المبدأ والفكرة، يشكّل هؤلاء خزاناً حقيقياً وماكينة انتخابية متمرسة يمكن أن ترجّح الكفة في استحقاقات مماثلة، خصوصاً إذا أحست بالخطر.
وللتذكير فقد أكد المرزوقي في كلمة في مدينة بنزرت شمالي تونس، أن "حربه ليست ضد أشخاص، بل ضد مشروع وضد منظومة الحزب الواحد والرجل الواحد"، مطالباً التونسيين أن يكونوا في يوم الانتخاب "من صنّاع التاريخ وليس من ضحاياه".
استراتيجية قايد السبسي الانتخابية قامت أساساً على ثنائية الدولة مقابل الفشل الاقتصادي، والحداثة في مقابل الرجعية، محتكراً مجال الدفاع عنهما على الرغم من تفوّق بعض منافسيه المنطقي من "العائلة الديمقراطية" في هذا الشأن، غير أن خطاباتهم لم تفلح في "إغراق السوق الانتخابية" بهذه المفاهيم، ولم تفلح في مزاحمته على الرغم من الاتهامات العديدة التي وُجّهت له في هذا الشأن.
ويبدو المفتاح الحقيقي الوحيد الذي يمكن أن يقلّص نسبة تفوق قايد السبسي، متوقفاً على مدى إقناع الناخب التونسي بضرورة التوازن على رأس السلطتين التنفيذيتين، وهو ما حاول كل منافسيه استثماره طيلة الحملة الانتخابية، وستثبت انتخابات اليوم مدى نجاح هذه الاستراتيجية التي تم اعتمادها.
ولكن قايد السبسي ألقى صنارته خلال الأيام الأخيرة في كل الاتجاهات، وفتح قنوات مباشرة مع أنصار "النهضة" بتأكيده إمكانية التلاقي معها في الحكومة المقبلة. وحاول أيضاً "قضم" بعض أنصار اليسار التونسي، حين أعلن أن الكشف عن قاتلي شكري بلعيد ومحمد البراهمي قضيته الشخصية، وأكد أخيراً أن تونس بحاجة مستقبلاً لكل الجهات السياسية بما فيها المرزوقي وزعيم "الحزب الجمهوري" أحمد نجيب الشابي وغيرهم، مستثمراً خطاب الجمع في مقابل الإقصاء برأيه.
أما بقية المرشحين، فيصرّون على أن هذه الثنائية بين المرزوقي والسبسي مكرَّسَة فقط في المنابر الإعلامية، وأن الشعب التونسي لديه خيارات أخرى سيفاجئ بها الجميع مساء اليوم.
وفي هذا السياق، حذّر مرشح "الجبهة الشعبية" اليسارية حمة الهمامي من "التصويت المفيد" الذي يقوم على مبدأ التخويف، وفرض الاختيار على الناخب بين المرشحَين المذكوريْن فقط من دون سواهم. ويبدو الهمامي في تقدّم واضح من خلال كثافة الحضور في اجتماعاته الشعبية الأخيرة والحملة الدعائية الكبيرة في الشوارع التونسية، وارتفاع أسهمه في نوايا التصويت بحسب بعض المتابعين.
كما يحظى رجل الأعمال سليم الرياحي بحظوظ جدية للفوز بالمرتبة الثالثة، بعد نجاح خطته في الانتخابات التشريعية وتحقيقه مفاجأة انتخابية حقيقية، على الرغم من إصراره على أنه سيكون في الدور الثاني، ومؤكداً أن "الباجي قايد السبسي سيُصدم من النتائج التي سأحققها في الدور الأول وفي انتصاري في الدور الثاني"، مضيفاً أن المرزوقي ليس مرشح حركة "النهضة" لكنه يشهد صعوداً كبيراً في نتائج استطلاعات الرأي، وأن السبسي هو من سوّق بأن المرزوقي هو مرشح "النهضة" من أجل تفادي ملاقاته في الدور الثاني.
وتبقى كل هذه الآراء من قبيل التكهنات السابقة لأوانها، فهناك مرشحون آخرون يراهنون بجدية على دورهم خلال هذه الانتخابات، وتبقى حظوظهم كبيرة وقائمة، وسيحدد التونسيون وحدهم بعد ساعات من سيكون منهم الرئيس المنتخب بعد الثورة.