من أكبر الخطايا البيئية التي تجلّت تأثيراتها أخيراً هذا النهم الكبير في استخراج المعادن من باطن الأرض، والذي واكبه غض النظر عن شاغلي سطحها من بشر وحيوانات وغابات. وعرفت مواقع سودانية عدة في ظل حمى استخراج الذهب والمعادن النفيسة هجمات بقوة السلاح، والتي حرست بعضها السلطة، على مجمعات مأهولة بالسكان، ومواقع أثرية مسجلة، ومحميات طبيعية تزخر بالتنوع الإحيائي. وهذا ما يحدث الآن في محمية "الردوم" الاتحادية جنوب غربي البلاد، حيث تتعرض البيئة هناك إلى انتهاكات صارخة رغم تحذيرات من أهل الشأن.
أحد تأثيرات عمليات التعدين داخل محمية "الردوم" تغيير سلوك بعض الحيوانات البرية والطيور. ورصد أحد المهتمين تجوّل طائر النعام داخل سوق "سنقو"، وأرفق الصور بتعليق ساخر بأن "التشرُّد والتسوُّل والنزوح واللجوء لم يعد حكراً على بني البشر".
وأنشئ سوق "سنقو" حديثاً داخل محمية "الردوم" لخدمة العاملين في التعدين الأهلي، وفي شركات التجريف الكبيرة، وأفراد القوات النظامية الذين يقطعون الأشجار ويصنعون الفحم النباتي ويتاجرون به، رغم أن القانون يحظر كافة الأنشطة البشرية في المحمية.
وغني عن القول إن النشاطات داخل المحمية لوّثت بيئتها جراء أعمال التخلص العشوائي من الفضلات، وعمليات صيد الحيوانات البرية، وقطع الأشجار لسقف آبار الذهب، وصناعة المساكن، ما أدى إلى إزالة مساحات واسعة من الأشجار، وتدمير موائل الحيوانات البرية والطيور.
يغيب على هؤلاء أن إنشاء المحميات الطبيعية ليس ترفاً كما يروّج البعض، بل بات مطلباً دولياً، بسبب الدور الذي تلعبه هذه المحميات في الحفاظ على التنوع الإحيائي، واستمرار الحياة على كوكب الأرض، وهي من مؤشرات الحضارة البشرية وتطورها عبر الأزمان.
أُنشئت محمية الردوم الاتحادية عام 1981، وفقاً لأحكام قانون الحفاظ على الحيوانات البرية والنباتات الطبيعية وتكاثرها التي تنص على "حماية الحياة البرية والنباتات وحماية المناظر الطبيعية في المحميات والتكوينات الجيولوجية ذات القيمة العلمية أو الجمالية الخاصة، وذلك لمتعة أو منفعة الجمهور عامة".
يتسم النظام الإيكولوجي البيئي في المحمية بالتنوّع النباتي الذي يشمل غابات السافانا الغنية والغابات النهرية، إلى جانب المراعي والمروج الرطبة. ويتشكل الغطاء النباتي من أشجار الهليلج والرخو والقمبريط والصباغ والصهب والدوم والسدر والسنك والمهوقني وغيرها، وأيضاً من أعشاب الحمرور والخزمزم والثيل التي تشكل نحو 90 في المائة من الموائل. لكن يد الإهمال التي طاولت مناحي بيئية عدة لم تستثن "الردوم" إلى جانب توغُّل الرعاة بقطعانهم إلى عمق المحمية، والمنافسة الشرسة على المياه والنبات، مع توفر الأسلحة النارية ودورها في تهديد الحياة بالمحمية، جاءت حمى التنقيب عن الذهب ليكمل سوء الصورة، ويتم ردم "الردوم" بخطايا البشر.
(متخصص في شؤون البيئة)