"عبّارو" الجزائر... مهمات ناجحة للبحث عن المياه

14 أكتوبر 2021
تنقيب عن مياه بطرق تقليدية (العربي الجديد)
+ الخط -

مع تزايد الحاجة إلى المياه في الجزائر، وسط التناقص الحاد في كمياتها المتوافرة، اضطرت السلطات، بعد سنوات من التجميد، إلى منح المزارعين رخصاً لحفر 8 آلاف بئر من أجل استغلال المياه الجوفية، خصوصاً في مناطق الريف من أجل استخدامها في الرّي، وتلبية الاحتياجات من المياه. ولجأ بعض المزارعين إلى تجهيزات تقنية وعلمية متطورة ومتخصصة في التنقيب عن المياه، لكن آخرين تمسكوا بالاعتماد على طرق تقليدية عبر جلب منقبين يستخدمون أدوات بسيطة لرصد أماكن وجود المياه.
يعرف ممارسو مهنة التنقيب عن المياه باسم "العبّار" أو "الوزّان". وفي مناطق ريفية محدودة، يستخدم بعضهم أغصان الزيتون في شكل معين أو ساعة يدوية أو سلسلة حديدية أو قارورة ماء لتحديد مكان المياه الجوفية ومسارها داخل الأراضي والوديان. ودأب هؤلاء على إنقاذ المزارعين الذين يستعينون بهم للبحث عن المياه وحفر آبار تروي ظمأ الأرض والحقول، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي زاد فيها القحط والجفاف في الجزائر. وفعلياً، سمح اكتشاف المياه بعودة مزارعين وأهالٍ في الريف إلى العمل في أراضيهم خصوصاً في المناطق الجبلية.

الأشهر يفك العقدة
يخبر المزارع مصطفى بن رابح الذي يملك قطعة أرض واستصلح وهيأ منحدراً جبلياً للمحاصيل في بلدة جبلية بأعالي منطقة الجبابرة غرب الجزائر "العربي الجديد" أنه عانى لفترة طويلة جداً من مشكلة شحّ المياه التي عرضته لخسائر كبيرة، وسعى إلى البحث عن حلول جذرية للتعامل مع الجفاف الحاد الذي تواجهه أشجار الزيتون والتين والخوخ التي يزرعها وتحتاج في بداية نموها إلى كميات كبيرة من المياه. وحتم ذلك استعانته بـ "عبّار" للتنقيب في أرضه التي "كنت متأكداً من وجود مياه في جوفها".
يضيف: "كان لا بدّ من أن استعين بعبّار لتحديد مكان تجمع المياه وحفر بئر. واستعنت بعدد منهم رصدوا أماكن مختلفة للنقطة المركزية لوجود البئر. ثم استعنت بعبّار شهير جداً مشّط خلال نحو ساعة من الزمن الموقع قبل أن يعثر على المكان المناسب، فاستخرجت منه المياه من عمق 10 أمتار".

موهبة بالصدفة
في بلدة موزاية قرب الجزائر العاصمة، يعرف "العبّار" محمد سلطاني بخبرته الكبيرة في التنقيب عن المياه. ويخبر "العربي الجديد" أنه تعلم الحرفة حين كان لا يتجاوز الـ 30 من العمر، موضحاً أن "الصدفة لعبت دوراً في هذا الأمر، حين شاهدت مرة دوران غصن زيتون وساعة جيب استخدمهما عبّار استقدمه خالي لحفر بئر في بستان. والحقيقة أنني فوجئت بحركتيهما القوية كلما اقتربا من موقع البئر فاستهواني الأمر، وحرصت على تعلم المهنة. وبعد فترة قمت بتجربة للبحث عن أماكن مياه في المنطقة، ونجحت في تحديد موقع بئر، فتأكدت أنني أمتلك موهبة تحديد نقاط في مجرى المياه الباطنية، وأصبحت أقدم خدماتي لمزارعين في ولايات عدة" .
ويوضح أن "مزارعين كُثراً لا يزالون متمسكين بالاستعانة بعبّار تقليدي رغم التطور التكنولوجي في مجال التنقيب، لأنهم مقتنعون بمصداقيته وتنفيذه مهمات أثبتت التجارب الميدانية فاعليتها، كما أن كلفة اللجوء إلى خدمات عبّار أقل بالنسبة إلى المزارعين، إذ تناهز عملية كشف نبع ماء وتحديد التقاء مجاري مائية باطنية مع موقع بئر 30 دولاراً، فيما يتخطى سعر تحديد موقع آبار باستخدام أجهزة متطورة 200 دولار، علماً أنه لا يمكن تجاهل دور المعايير العلمية والتقنيات الحديثة في تنفيذ مهمات التنقيب عن المياه، والتي تعتبر أكثر نفعاً في تحديد أماكن آبار تتواجد على عمق أكثر من 100 متر، بينما يمكن أن يحدد العبّار مكان المياه على عمق أقل 15 متراً. ولا بدّ من الإشارة إلى أن التجارب السابقة أثبتت نجاح غالبية النقاط التي يحددها ممارسو مهنة العبّار، ما يؤكد فاعلية الطرق التقليدية في البحث عن مياه".

حقل عنب في سيدي بل عباس (رياض كرامدي/ فرانس برس)
حقل عنب في سيدي بل عباس (رياض كرامدي/ فرانس برس)

موهبة خارقة
في غرب الجزائر، ذاع صيت امتلاك "العبّار" محفوظ بلقايد الذي يقطن في محافظة شلف، موهبة خارقة في البحث عن المياه الجوفية لدرجة أنه بات لا يستطيع تلبية طلبات مزارعين يطلبون الاستعانة بخدماته في كل محافظات الجزائر. وزادت مصداقيته بعد نجاح عمليات حفر كثيرة في نقاط حددها. ويقول لـ"العربي الجديد": تتحرك طاقة الساعة أو غصن الزيتون الذي أحمله في يدي، فتبدأ عملية استشعار الموقع، ويعقبها تتبع المجرى المائي لبلوغ النقطة الأكثر مثالية حيث تلتقي  المجاري في باطن الأرض، وانتقل إلى تحديد قوة التدفق والعمق بكرات حديدية صغيرة، أو حجارة أخرجها من جيبي وأرميها واحدة تلوى أخرى فوق مركز البئر".
وقد أنقذ بلقايد فلاحين كانوا في أمسّ الحاجة إلى مياه، أو مساجد ومؤسسات تستخدم المياه، بعدما يئس مالكوها والقيمون عليها من عدم إمكان فعل ذلك، وأنفقوا مبالغ مالية ضخمة في القيام بعمليات حفر سلبية وغير مجدية.
ويشير بلقايد إلى أن "دخلاء كُثراً على مهنة العبّار كبّدوا فلاحين خسائر فادحة، وشوّهوا حكمته ومصداقيته، خصوصاً أن معظمهم لا يهمهم إلا المال، فهم يؤكدون لزبائنهم بأن الماء موجود في أراضيهم، رغم أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله". 
وعن دور التقنيات الحديثة في كشف وجود المياه، يشرح بلقايد أنه يملك قدرة كبيرة في تحديد موقع الآبار، لكنه ينصح الزبائن دائما بالاستعانة بتقنيات حديثة، لتحديد نوعية الطبقات الصخرية الموجودة في باطن الأرض.

 

الآبار مهمة جداً للجزائريين منذ القدم (Getty)
الآبار مهمة جداً للجزائريين منذ القدم (Getty)

الاستشعار
إلى ذلك، يشرح "عبّارون" كُثر بأن عملية الاستشعار التي تحدث في موقع المجاري المائية الباطنية تختلف حسب قوة الجذب المغناطيسي الذي يحدث بين دم الإنسان والمياه الباطنية وبين حركة دوران ساعة الجيب أو السلسلة أو غصن الزيتون، وينتج من تفاعل مادة الحديد أو مادة توجد بغصن الزيتون مع معادن موجودة تحت سطح الأرض. أما آخرون فيرون أن سبب دوران غصن الزيتون بقوة يرتبط بالتفاعل بين عضلات "العبّار" مع تأثير الطاقة المتفقدة للمياه.  
وكان عالم الآثار البريطاني توماس تشارلز ليثبريدغ شرح سابقاً أن "الأجسام والكائنات الحيّة تملك قدرة على إرسال طاقة تستقبلها أدوات مثل غصن شجرة، أو رقاص ساعة"، في حين فسرّ آخرون التفاعل بانه ناتج من نشاط كهربائي أرضي في منطقة التنقيب.

رغم التقنيات
وتختلف الآراء في الجزائر حول مصداقية الأشخاص الموهوبين بالبحث عن المياه الجوفية في كل المناطق الزراعية والجبلية. ويؤمن البعض ممن امتلكوا تجارب فعلية في التعامل مع عبّارين تقليديين، بقدرة الطرق التقليدية على تحديد مصدر المياه ومسار الوديان الباطنية، وبأن المنقبين عن المياه يتمتعون بحكمة واكتسبوا خبرات عملية على امتداد فترات طويلة في معرفة أماكن وجود المياه. لكن أشخاصاً آخرين يبدون حماسة أكبر للتقنيات الحديثة والمعايير العلمية المعتمدة في استكشاف الأماكن، ويعتقدون بالتالي بأن "غالبية العبّارين مجرد منفذي تجارب يقدمون تكهنات غير دقيقة". 
واللافت أن المهندس في الموارد المائية سليمان قيطون يعترف بأن "مصالح متخصصة تستعين أحياناً بعبّارين تقليديين يعرفون بامتلاكهم خبرات كبيرة في تحديد مواقع ومجاري المياه، خصوصاً في تحديد آبار على عمق أقل من 15 متراً، وذلك رغم أن هذه المصالح تستخدم أجهزة متطورة لحفر الآبار، وتستعين بخبرات علمية تتوافر في هذا المجال. من هنا، لا يزال دور العبّار التقليدي يفرض نفسه في البحث عن المياه التي تعتبر كنزا حقيقيا بالنسبة إلى المزارعين، فقد جعل الله من الماء كل شيء حي".

قضايا وناس
التحديثات الحية

مشكلة المياه
وتشكل المياه مصدر قلق للسلطات الجزائرية منذ سنوات. ولجأت إلى مخطط عاجل لتوفير المياه المستعملة للشرب وتسييرها منذ عام 1997، خصوصاً بسبب ارتباطها بأنشطة الزراعة التي تعتبر مصدر رزق لآلاف الفلاحين.
ومنذ عام 2012، وضعت السلطات خطة لإنجاز 30 سداً، ورفع عددها إلى 93، وإنشاء 13 محطة لتحلية مياه البحر وربطها بالشبكات العمومية لتوزيع المياه، تمهيداً لإنتاج 3.2 ملايين متر مكعب من المياه يومياً.
واستغلت الجزائر 200 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، وعالجت نحو 1800 مليون متر مكعب من الماء خلال 2020.

المساهمون