"كوز العسل"... التين الشوكي فاكهة فقراء مصر المحرمة

13 اغسطس 2022
سعر حبة التين الشوكي جنيهان أو أكثر حسب منطقة البيع (العربي الجديد)
+ الخط -

"كوز العسل يا تين"... هكذا ينادي الشاب محمد عبد الهادي، لجذب المارة إلى عربة يجرها بيديه طوال ساعات النهار، في شوارع العاصمة المصرية القاهرة، ليبيع "التين الشوكي".
لسنوات، اعتاد عبد الهادي أن يحمل "خلجاته"، والتي تعني بلهجة أهل صعيد مصر، بعض الملابس والأغطية البسيطة، بعد انتهاء العام الدراسي، ليتوجه إلى منطقة السيدة زينب الشعبية بوسط القاهرة، للإقامة عند أولاد عمومته، ليبدأ مشوار الشقاء. 
سنوياً، يستأجر الشاب الصعيدي عربة اليد من وكالة مهجورة ملاصقة لأرض المذبح القديم، ويتجه بها إلى ناصية أحد الطرق ذات الكثافة المرورية. ينتظر قدوم ابن عمه الذي يملك "تريسيكل"، ليترك له عدة أقفاص من التين الشوكي، ليبدأ مهمة بيع ما تحصل عليه من تلك الفاكهة الصيفية التي يقبل عليها سكان المناطق الشعبية، والذين يصعب عليهم شراء كثير من أنواع الفواكه المعروفة رغم وفرتها في الأسواق لارتفاع أسعارها. 
يقول عبد الهادي إن نداء "كوز العسل يا تين" يثير الشجن في قلوب الغلابة، مضيفاً أن "التين الشوكي يظل فاكهة الفقراء لرخص أسعاره، فضلاً عن شدة حلاوته. حالياً أبيع التين بـ(الحبة) بعد أن كنت في سنوات سابقة أبيعه بـ(الشروة) التي تعني مجموعة كبيرة من الحبات، أو بالقفص الذي يضم ما بين 100 إلى 120 حبة". 
يتذكر البائع الصعيدي ما يطلق عليه "أسعار زمان، حين كان الأطفال يهرعون إلي عند سماعهم النداء على التين الشوكي، ليحصل كل طفل على حبة بعشرة قروش. ما زلت أبيع في نفس الأماكن سنوياً، ومنذ عدة سنوات، بلغ سعر حبة التين الواحدة جنيهاً، وهذا العام، أبيعها بجنيهين في الصباح، أو بجنيه ونصف في نهاية اليوم".
يلاحظ عبد الهادي أنه بات مضطراً لرفع صوته بالنداء لجذب المشترين، فالناس كما يقول، أصبحوا ينظرون إلى فاكهة الفقراء باعتبار أنها صعبة المنال بعد أن زاد الغلاء، وأصبح شراء التين الشوكي يحتاج إلى ميزانية.
ويقول إنه بات مضطراً إلى بيع حبة التين في المناطق الشعبية بهذه الأسعار حتى تحقق له مكسباً معقولاً يغطي تكلفة الصفقة اليومية، فسعر قفص التين يتراوح ما بين 50 و60 جنيهاً، ونقله وتسويقه يحتاج إلى تكلفة إضافية، وكي يحقق دخلاً مقبولاً في حدود 150 جنيها للبائع، عليه أن يبيع 10 أقفاص على الأقل، في حين زهد كثير من الناس في شراء فاكهة الفقراء لوجود أولويات أخرى كثيرة تشغلهم عن التين وحلاوته. 

يساعد التين الشوكي في تقوية جهاز المناعة وزيادة النشاط الجنسي (العربي الجديد)
يساعد التين الشوكي في تقوية جهاز المناعة (العربي الجديد)

اعتاد الشاب الصعيدي على كسب لقمة العيش عبر العمل خلال فترة الإجازة الدراسية، وقد أكمل رحلة التعليم بمشقة إلى أن انتهى من الحصول على مؤهل فوق المتوسط، لكنه ما زال "يسرح" في الشوارع طلباً للرزق الحلال، وهو يبيع التين خلال شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، وهما موسم حصاده، بعد أن فشل لسنوات في الحصول على وظيفة على غرار ملايين الخريجين الباحثين عن عمل.
خشية عبد الهادي من أن يرجع إلى بلدته بـ"خفي حنين"، دفعته إلى المخاطرة ببيع التين الشوكي في ما يطلق عليه وصف "أحياء الأغنياء" بالقرب من كورنيش النيل، فقد علم من أولاد عمومته، أن سعر الحبة في تلك المناطق يتراوح ما بين 2.5 إلى 3 جنيهات، مع إمكانية دفع الناس لبقشيش، حيث يقبلون على فاكهة الفقراء باعتبار أنها "فلكلور شعبي".
وأيقن أنه بقليل من الابتسامات، وإظهار النظافة، والتغليف البسيط لحبات التين الشوكي، يمكنه أن يبيع كميات كبيرة يومياً بالسعر الأغلى، فوظف قدراته التعليمية والتجارية في رصد أفضل أماكن البيع البعيدة عن ملاحقات "شرطة المرافق"، وتعلم سريعاً كيفية التعاطي مع موظفي البلدية الذين يقبلون بمبالغ بسيطة لتركه في المكان، أو الاحتماء بأحد المحال التي تستفيد من إقبال الزبائن عليه، واستطاع أن يجد له مكاناً في مناطق وسط القاهرة الراقية.

الأرشيف
التحديثات الحية

تحول التين الشوكي إلى مصدر رزق مهم، وبات يطلق عليه اسم "الذهب الأخضر" بعد أن توسعت وسائل الإعلام في النشر عن فوائده، وتبارت المواقع الطبية في ذكر أهميته في مكافحة سرطان المعدة، والبروستاتا، والقولون، كما ينسب إليه زيادة النشاط الجنسي لدى الرجال، وتقوية جهاز المناعة.
توصيات الأطباء التي تلاقت مع تكرار الاهتمام الشعبي، خلقت طلباً من الأغنياء الذين أصبحوا يبحثون عن "التين الشوكي" في جولاتهم بالشوارع.
ومنحت "السوشيال ميديا"، الشاب محمد عبد الهادي، وأمثاله، طوق نجاة ليواصل مشواراً بدأه منذ الصغر بصحبة أبيه وأعمامه، وهو الذي كاد يفلت من تكرار التجربة الشاقة عبر التعليم لولا انضمامه إلى فئة العمالة غير المنتظمة التي ترضى بالأعمال الدنيا من أجل كسب "لقمة العيش" بأية وسيلة على مدار العام. 
زاد الأمر مشقة مع تصاعد الأزمة المالية خلال العامين الأخيرين، لتضم مجموعة كبيرة من العمال، ويؤكد تقرير "مصر في أزمة" الذي أصدره صندوق النقد الدولي خلال الشهر الماضي، أن معدل بطالة الشباب يزداد مع كل مستوى إضافي من التحصيل العلمي، إذ تصل نسبة البطالة إلى 34 في المائة بين الحاصلين على مؤهل جامعي.
ويشير التقرير إلى أن معدلات البطالة والفقر بين المصريين ما زالت مرتفعة، وأن بلداً تبلغ نسبة الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة فيه نحو 60 في المائة، يتطلب توفير المزيد من فرص العمل حتى لا يحاصر الفقر الكثيرين، ما يجعل الدولة عرضة لعدم الاستقرار السياسي إذا لم تتمكن الحكومة من توفير سبل العيش للبسطاء.
يواصل عبد الهادي كفاحه اليومي رغم ظروف العمل الشاقة، بينما تسجل مصر، وفقاً لتقارير رسمية ودولية، ارتفاعاً متواصلاً في أسعار المستهلكين شهرياً على مدار السنوات الثلاث الماضية، وقد أدى "تعويم" الجنيه، وإلغاء العديد من الإعانات المخصصة للسلع التموينية إلى زيادة التكاليف المعيشية على العائلات.

التين الشوكي فاكهة الفقراء لرخص أسعاره مقارنة ببقية الفواكه (العربي الجديد)
يعرف التين الشوكي بفاكهة الفقراء لرخص أسعاره (العربي الجديد)

وبينما الناس يزدادون فقراً، وتتآكل قدرتهم الشرائية مع التضخم المتواصل، وأجور لا تواكب تكاليف المعيشة، اضطر أفراد  العديد من الأسر إلى تحمل العمل الشاق. يقول عبد الهادي، إن "التين الشوكي الذي كان الناس يشكلون فرقاً لجمعه من المناطق النائية والأراضي الصحراوية، أصبح في زمن ندرة المال مصدر رزق، ومهنة مهمة، ولجأ كثيرون إلى التوسع في زراعته، ومع عدم قدرة الفلاحين على تحمل تكلفة الإنتاج الزراعي للمحاصيل وحدائق الفاكهة، بات الكثير منهم يزرعون التين الشوكي، والذي لا يحتاج إلى رعاية دائمة، بل قليل من الاهتمام والسماد العضوي".
ما زالت زراعة التين الشوكي بدائية في مصر، رغم وجوده منذ زمن بعيد، ويؤكد البائع الشاب أن "ارتفاع السعر حوله إلى محصول مربح يجذب المزيد من المغامرين الذين يرضون بحياة الشقاء، ومواصلة النداء: كوز العسل يا تين، ليعبروا بمكاسبهم النفق المظلم من دون التفكير فيما يتحملونه من وخز الأشواك، والأجهزة الأمنية التي تلاحقهم في الشوارع". 

المساهمون