أزمات متتالية تعصف بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ظاهرها مالي فيما بواعثها سياسية، في مساع لإنهاء ملف اللاجئين الفلسطينيين وإغلاق أبواب الوكالة الأممية تدريجياً وببطء، إذ هي "الشاهد السياسي الدولي على قضيّتهم وحقّهم بالعودة والتعويض". وتعاني "أونروا" منذ سنوات من عجز مالي في موازنتها، زاد من حدّته قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في عام 2018، وقف التمويل المالي الذي تقدّمه الولايات المتحدة الأميركية للوكالة بقيمة 350 مليون دولار سنوياً، قبل أن يتغيّر الوضع أخيراً مع استلام الرئيس الحالي جو بايدن. بعد ذلك، قرّرت دول عربية وغربية خفض مساعداتها للوكالة، في حين يرى مراقبون أنّ ثمّة سوء إدارة فيها.
وفي 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عُقد المؤتمر الدولي المخصّص لدعم الوكالة الأممية في بروكسل برئاسة مشتركة من الأردن والسويد وبمشاركة نحو 60 دولة ومنظمة دولية، وقد تعهّدت خلاله الدول بتقديم 35 مليون دولار لـ"أونروا" التي أعلنت عن حاجتها إلى 100 مليون دولار للعام الجاري، فقُدّر العجز بالتالي بنحو 65 مليون دولار. يُذكر أنّ مطالب الموظفين وحقوقهم مهددة مع النقص في التمويل، علماً أنّ هؤلاء نظّموا إضرابَين وتراجعوا عن ثالث مفتوح بعد وعود بتحقيق مطالبهم أطلقتها الإدارة. وتطالب اتحادات العاملين في "أونروا" بـ"إلغاء قرار الإجازة الاستثنائية بدون راتب للموظفين كافة" و"إعادة العلاوة السنوية، وبأثر رجعي، المجمّدة منذ مارس/ آذار الماضي"، بالإضافة إلى "فتح باب التعيين الدائم لأبناء اللاجئين، وصرف رواتب شهرَي نوفمبر (المنصرم) وديسمبر/كانون الأول (الجاري) من دون تأخير أو تجزئة".
يقول أحد موظفي "أونروا" مفضّلاً عدم ذكر اسمه لتجنّب المساءلة القانونية: "يريدون معالجة العجز المالي المتراكم منذ سنوات على حساب الموظفين"، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنّ "الأزمة المالية مصطنعة، والهدف منها إضعاف الوكالة تمهيداً لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين إرضاءً لإسرائيل وتنفيذاً لمخططاتها". يضيف الموظف نفسه: "نعم لدينا مطالب وحقوق، لكنّ توقيت إضراب العاملين لم يكن مناسباً، خصوصاً مع قرب انتهاء العام الدراسي. كذلك، فإنّ قرار الإضراب لم يكن صائباً ولم يحقّق المطالب"، لافتاً إلى أنّ "بعض تلك المطالب كان هامشياً من وجهة نظري، وما تحقّق نتيجة الإضراب مجرّد إنجازات وهمية". وتابع الموظف أنّ "ثمّة جانباً خفياً في عمل الوكالة يستهدف تقليص الخدمات وخفض نوعيتها لإضعاف الوكالة، ويترافق ذلك مع إجراءات تفوح منها رائحة فساد".
من جهته، يوضح رئيس اتحاد العاملين في "أونروا" بالأردن رياض أبو الزيغان، لـ"العربي الجديد" أنّ "مطالب العاملين متابَعة بشكل مستمر، خصوصاً في ما يتعلق بالزيادة وموعد منح الرواتب"، مضيفاً أنّ "تعليق الإجراءات التصعيدية كان من خلال ضمانات حكومية لتلبية مطالب العاملين. فالاطمئنان مردّه تدخّل الدول المضيفة". يضيف أيو الزيغان أنّ "الضمانات الحكومية في الأردن والوعود بحلّ المشكلات مجرّبة سابقاً وهي محلّ ثقة"، مبيّناً أنّ "قرار عدم عدم الدخول في الإضراب الشامل كان قرار أغلبية اتحادات العاملين في مناطق عمليات الوكالة الخمس". وحول مستقبل الوكالة وأوضاعها المالية في الفترة المقبلة، يقول أبو الزيغان: "نحن في فترة ترقّب ما سوف تسفر عنه قرارات الإدارة بالتعاون مع الدول المضيفة والمانحة، ثمّ لكلّ حادث حديث".
وخلال اجتماع للجنة الاستشارية لوكالة "أونروا" عُقد أخيراً في العاصمة الأردنية عمّان، أفاد المفوّض العام للوكالة فيليب لازاريني بأنّ توقيت دفع رواتب العاملين لشهرَي نوفمبر وديسمبر "غير معلوم"، موضحاً أنّ "تمويل الوكالة في حالة ركود هذا العام على الرغم من استئناف الدعم الأميركي، بسبب انخفاض الدعم من عدد من كبار المانحين وغياب آخرين". أضاف لازاريني أنّ الوكالة "مستهدفة وتتعرّض إلى هجمات سياسية"، وأنّها "تمرّ بتهديد وجودي بسبب الأزمة المالية غير المسبوقة"، وأنّ "التمويل ضروري لاستمرار عملياتها في مناطق عملها الخمس، كذلك هو يحفظ الأمان الوظيفي للعاملين"، مشيراً إلى أنّ أهمّ الأولويات هو الإبقاء على كلّ الخدمات الأساسية اللازمة للاجئين ودفع رواتب الموظفين. وحذّر لازاريني من انهيار الوكالة بسبب الأزمة المالية التي تمرّ بها، مضيفاً أنّه "إذا ما مضينا في هذا المسار، فالوكالة سوف تنهار في نهاية المطاف".
أمّا الموقف الرسمي الأردني إزاء "أونروا"، فقد لخّصته تصريحات نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي في مؤتمر بروكسل، إذ أكّد ضرورة استمرار المجتمع الدولي في توفير الدعم المالي اللازم للوكالة، حتى تمضي في تقديم خدماتها لأكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني، وتوفير حياة كريمة لهم ولموظفي "أونروا" الذين يعوّلون على رواتبهم الشهرية للعيش بكرامة. ورفض الصفدي الطروحات التي استهدفت الوكالة والتي زعمت استحالة إدامتها بسبب نقص التمويل، مشدّداً على وجوب استمرار الوكالة في تقديم خدماتها إلى حين حلّ قضية اللاجئين وفق القانون الدولي، وفي سياق حلّ شامل على أساس حلّ الدولتَين الذي يُجسّد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس المحتلة. وتابع الصفدي أنّ الأردن، الداعم الأكبر للوكالة وللاجئين الفلسطينين، سوف يستمر في عمله مع الشركاء ومع الوكالة لضمان استمرار تقديم التمويل اللازم لها وسدّ العجز في موازناتها.
في الإطار نفسه، رأت المديرة التنفيذية لمنظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية "أرض"، سمر محارب، أنّ أزمة "أونروا" هي أزمة مالية ترتبط بعدم توفّر إرادة سياسية دولية حقيقية تعمل على استقرار وضع الوكالة، لافتة إلى أنّ وعود التمويل من قبل الدول المانحة مشروطة بمعظمها. وأكّدت محارب أنّ كثيراً من الدعم المقدّم للوكالة مشروط بإيجاد حلول جذرية لمشكلة اللاجئين، وثمّة من يشترط ما يسمّيه "الحياد" الذي يمنع الموظفين من الحديث عمّا يسمّى "معاداة للسامية"، أي انتقاد الاحتلال وسياسته العنصرية، لافتة إلى أنّ بريطانيا خفّضت 50 في المائة من دعمها مبرّرة ذلك بأنّ المناهج تهاجم إسرائيل، في حين تتناول المناهج شهادات وتاريخ. وثمّة تشديدات تفرضها الوكالة الأممية حول استخدام مصطلحات وطنية مرتبطة بقضيّتَي "اللجوء" و"حقّ العودة".
وأشارت محارب إلى أنّ ثمّة ضغوطاً واشتراطات تجعل "أونروا" في وضع حرج وغير مستقر، وثمّة مشكلات تفرض ضغوطاً كبيرة على الدول المضيفة، فيما التساؤل هو حول مصير اللاجئين ومخيّمات اللجوء. بالنسبة إليها، فإنّ الحديث بشكل عام يتركّز على أسباب المشكلات المالية، ولا أحد يحكي بصوت عال عن الاحتلال، وهو السبب الرئيسي لوجود "أونروا". وتابعت محارب أنّ الأزمة طويلة الأمد وتعود إلى سنوات عدّة عندما بدأ التقصير بدفع الرواتب وتراجع الخدمات في مناطق عمل الوكالة، لافتة إلى أنّه خلال مؤتمر بروكسل، كان تعويل على أن يغطّي المؤتمر الحاجات التمويلة للسنوات المقبلة، لكنّ الدول المانحة قدّمت تعهدات لا تغطّي احتياجات الربع الحالي من هذا العام، خصوصاً في ما يتعلق برواتب الموظفين الذين يقترب عددهم من 28 ألفاً، من بينهم سبعة آلاف في الأردن. وشرحت أنّ عجز الموازنة في العادة يدفع ثمنه الموظفون، وأنّ التخفيضات والمساومات تتمّ على حساب العاملين المحليين، مشددة على أنّ المطلوب لحلّ المشكلة الحالية هو مرونة إدارية، خصوصاً أنّ ثمّة وعوداً بتوفير التمويل اللازم في السنوات المقبلة من خلال قرارات إدارية أو التواصل مع الدول المانحة.
في سياق متصل، يقول الكاتب والصحافي الأردني محمد سويدان، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أونروا وُجدت لدعم وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والغاية الأساسية منها هي تقديم الخدمات لهؤلاء إلى حين عودتهم إلى أرضهم ومساعدة الدول المضيفة. والوكالة قدّمت خدمات كبيرة، لكنّ مؤامرات كبيرة كانت تستهدفها على الدوام بهدف إنهاء القضية الفلسطينية، ومنع عودة اللاجئين التي تعدّها دولة الاحتلال الإسرائيلي خطاً أحمر. يضيف سويدان أنّ "ثمّة ضغوطاً دائمة لخلق أزمة مالية في الوكالة، من أجل التوصّل إلى عجز من شأنه أن يضعفها ويلغي دورها في تقديم المساعدة للاجئين".
وبحسب سويدان، فإنّ "المشكلة سياسية مالية فاقمتها سياسة ترامب"، لافتاً إلى أنّ "الدعم المالي الأميركي يمثّل جزءاً مهماً من مصادر دخل الوكالة. لكنّ وقف الإدارة الأميركية السابقة الدعم المالي استجابة لضغوط حكومة الاحتلال ورئيسها بنيامين نتنياهو حينها، وجّه ضربة قوية لعمل الوكالة الأممية كجزء من صفقة القرن". ويؤكد أنّ "إسرائيل ودول عدّة مؤيّدة لها تحاول إلغاء دور الوكالة لإنهاء قضية اللاجئين، فيُجبَرون بالتالي على البقاء في بلدان استضافتهم، وتُفرَض سياسة الأمر الواقع".
ويفيد سويدان بأنّ "الأردن يؤدّي دوراً كبيراً في محاولة توفير الدعم المالي بالتنسيق مع دول عدّة من العالم"، مشيداً باستمرار دول أوروبية كثيرة في دعم الوكالة. ويرى سويدان أنّ "ثمّة دولاً عربية تتماهى مع الموقف الإسرائيلي والأميركي الهادف إلى إضعاف الوكالة"، قائلاً "صحيح أنّها تلتزم بحصّتها، لكنّ الوضع الحالي يتطلّب مساعدات إضافية للمحافظة على استمرارية الخدمات في هذا الوقت الصعب إقليميا ودولياً". ويتوقّع سويدان أن "يزداد الأمر صعوبة في السنوات المقبلة، وأن تتراجع الدول التي تقدّم دعمها بشكل مستمرّ، في ظلّ زيادة النفوذ الإسرائيلي في المنطقة ومحاولة التوصّل إلى اتفاقيات تؤدّي إلى اختفاء الوكالة، خصوصاً في ظلّ رفض إسرائيل منح اللاجئين الحق بالعودة والتعويض".