تعملُ الطواقم الطبيّة في قطاع غزة، الفلسطيني المحاصر، ضمن حالة طوارئ مستمرة، علماً أنّها أصبحت هي الأخرى ضمن دائرة الاستهداف الإسرائيلي. ويُعاني الأطباء والممرضون وغيرهم من العاملين الصحيّين ضغوطاً نفسيّة يومية في ظلّ أعداد الضحايا والجرحى التي تنقل إلى المستشفيات، وبعض هؤلاء هم أقارب أو أصدقاء لهم.
خلال هذا العدوان، تعمّد الاحتلال الإسرائيلي قصف أهداف فيها كثافة سكانية مرتفعة، وتعمّد شنّ عشرات الغارات على أكثر من منطقة بذاتها، وهو ما أدى إلى تدمير منازل بالكامل فوق رؤوس أصحابها، الأمر الذي فرض مزيداً من الضغوط على الطواقم الطبية، خصوصاً أنّ المستشفيات كانت تستقبل أعداداً كبيرة من الجرحى في وقت واحد.
طبيب الطوارئ في المستشفى الإندونيسي، عائد صبح، كان أحد الذين استقبلوا هؤلاء الضحايا والمصابين من جراء قصف بلدتي بيت حانون، وبيت لاهيا، شمالي القطاع، مساء يوم الجمعة الماضي. وحدث أن خرج للحظات من قسم الطوارئ ليجد طفليه في الخارج. ما زال يعيش صدمة من جراء ما حدث على الرغم من إصراره على مواصلة العمل لإنقاذ الجرحى.
زميله في قسم الطوارئ أحمد الكفارنة كان شاهداً على استقبال صبح لطفليه. يروي أنّه بعدما أسعفهما والدهما من إحدى السيارات، اصطحبهما مسرعاً إلى قسم الطوارئ ثم سقط أرضاً وقد أصيب بانهيار عصبي، وتولى زملاؤه علاجهما، وعلم لاحقاً أنّ بيته في بلدة بيت حانون قد دمر.
في الوقت الحالي، يعيش صبح في منزل شقيقته وأبنائها. هذا البيت بالذات تعرض للقصف أيضاً ما أدى إلى استشهاد شقيقته وأفراد من عائلتها، ولم ينجُ سوى طفليها جعفر وسارة. يقول الكفارنة لـ "العربي الجديد": "كان في البيت العديد من الأطفال والمراهقين الذين قضوا جميعاً، وقد بقي الطفلان الناجيان تحت الأنقاض أكثر من ساعة، قبل انتشالهما". يضيف أنّ "الطواقم الطبية في قطاع غزة تعمل لإنقاذ الناس على الرغم من الحالة النفسية الصعبة. لديهم عائلات وأطفال يتركونهم في منازلهم. وحين تبدأ الطائرات الإسرائيلية بقصف بيوت المدنيين، تزداد الضغوط. تلقيت اتصالاً من أسرتي قبل ثلاثة أيام تخبرني فيه باضطرارها إلى إخلاء المنزل في الوقت الذي كنت أقوم بإغاثة حالة طارئة. وفي أي وقت، أتوقع استقبال جرحى قد يكونون أقارب أو أصدقاء نتيجة وحشية القصف".
وداع صديق
وجد الممرض سمير العطار (22 عاماً) نفسه يودع صديقه في المستشفى الإندونيسي. كان ينوي العودة إلى منزله بعد انتهاء دوامه في العمل، لكن زميلاً له طلب منه أن ينوب عنه ساعتين بعد الإفطار يوم العاشر من مايو/ أيار الجاري. كانت آخر أيام شهر رمضان. وقبل موعد الإفطار، نقل إلى المستشفى عدد من المصابين والشهداء، ليجد العطار صديقه أحمد المصري (21 عاماً) من بينهم. لم يصدق بدايةً أنّه هو. ربما يكون شخصاً آخر يشبهه، قال في نفسه.
خرج من المستشفى وراح يتصل به لعله يجيب، لكن مراده لم يتحقق. عاود الاتصال أكثر من مرة من دون أن يلقى جواباً، ثم اتصل بوالده وببعض أقاربه فلم يجيبوا أيضاً. عاد إلى قسم الطوارئ ليجد الأقارب في الداخل. أجهش بالبكاء بعدما تأكد أن صديقه فارق الحياة.
يقول سمير لـ "العربي الجديد": "كان أحمد سيتزوّج في ثاني أيام عيد الفطر. قبل استشهاده بثلاثة أيام، اشتريت بدلة رسمية وربطة عنق حمراء مثل تلك التي اشتراها. كنا نُخطّط لأخذ صورة تذكارية مع العائلة والأصدقاء. كرهت مهنة التمريض كثيراً، علماً أنني بدأت العمل في في المستشفى قبل نحو 6 أشهر. كرهت كل شيء. كان يرغب في تأسيس أسرة في بلدته بيت حانون".
مع ذلك، عاد سمير للعمل بعد أربعة أيام من استشهاد أحمد، وقرر التخلي نهائياً عن ارتداء بدلته الجديدة التي اشتراها. يشير إلى أنه ليس الوحيد الذي واجه صدمة مماثلة "بل هذه هي حال العديد من الطواقم الطبية التي تستقبل يومياً العديد من الجرحى والشهداء من أقاربها، وفي قطاع غزة الجميع مترابط اجتماعياً". لكنه كلّما يرى مشاهد مماثلة، يبكي صديقه. يضيف: "الطواقم الطبية تعمل في حالة طوارئ وقد تفقد أشخاصاً من أفراد أسرها في أي لحظة. يومياً، نتلقى اتصالات من أهلنا، يخبروننا فيها بأن القصف كان قريباً منهم، أو يبلغونا باستشهاد أحد الأقارب أو الأصدقاء. لكن يتوجب علينا البقاء في العمل، علماً أننا قد نستقبل أقرب الناس إلينا في أيّ لحظة".
شقيقان في المستشفى
في مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس، صدف أن التقى شقيقان، أحدهما مصاب في وقت كان الآخر، وهو اختصاصي في الطبّ المخبري، يُجري فحوصات لمصابين. كان ذلك قبيل منتصف الليل. أراد فريد عمارة (31 عاماً)، اختصاصي الطب المخبري، النوم لبعض الوقت بعدما عمل لأكثر من 12 ساعة من دون أن يرتاح. لكنّ قسم الطوارئ طلب منه إجراء تحليل لبعض عينات الدم للمصابين الذين نقلوا إلى المستشفى، وكانت حالة أحدهم صعبة. قرأ الأسماء، وكان اسم أحدهم مطابقاً لاسم شقيقه. فمازح زميله بأنه قد يكون هو حقاً.
أسرع إلى قسم الطوارئ لرؤية الشاب، ليفاجأ بشقيقه أحمد (21 عاماً). لم يتمالك نفسه وراح ينادي على الأطباء. كان يشعر بخوف شديد، خصوصاً أنّ والدتهما شديدة التعلق بشقيقه. أُصيب أحمد بعد استهداف سيارة ببلدة بني سهيلا، وكانت حالته حرجة. وبقي في حالة غيبوبة ليوم كامل قبل أن يستيقظ.
بُترت ساق أحمد اليمنى من جرّاء الإصابة، وما زالت حالته صعبة. يحتاج أحمد إلى علاج خارج قطاع غزة، وينتظر نقله إلى مصر لإجراء عملية جراحية عاجلة في بطنه. منذ إصابة أحمد، لم يغادر فريد المستشفى للبقاء إلى جانب شقيقه. يقول لـ "العربي الجديد": "أشعر أنّني أشاهد مشهداً سينمائياً. أعيش تفاصيل صعبة ولا أستطيع إخبار أسرتي بذلك. في الوقت نفسه، أشعر بالعجز لعدم قدرتي على فعل أيّ شيء لشقيقي، خصوصاً أنّ حالته صعبة، وقد بُترت ساقه. لا أتمنى لأحد أن يعيش تجربتي، وآمل أن تنتهي الحرب سريعاً".