في السابع من إبريل/نيسان الجاري، كانت الشابة السودانية مريم عبد الله، وهي حامل في شهرها الثامن، تجري المراجعة الدورية في مستشفى الدايات بمدينة أم درمان، وهي إحدى المُدن الثلاث المكونة للعاصمة السودانية الخرطوم، وأخبرها طبيب النساء والتوليد بأنه سيجري لها عملية ولادة (قيصرية) بعد عشرة أيام، أي في اليوم السابع عشر من الشهر.
في مساء الجمعة الموافق 16 إبريل، حمل زوجها يس إبراهيم بعض المستلزمات التي تحتاجها النساء عادة في هذه الظروف، واتجه معها إلى مستشفى الدايات التي أنشأت في عام 1925. أدخلت مريم إلى غرفة بالمستشفى في انتظار إجراء عملية الولادة صباح يوم السبت 15 إبريل.
في الوقت الذي كانت تترقب فيه دخول غرفة العمليات، علمت مريم أن أعمالاً عسكرية نشبت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وقبل أن تدرك هول المشكلة، جرى إخطارها على عجل بأن إجراء العملية في الوقت الراهن غير ممكن، وأن عليها الرجوع إلى منزلها ريثما يتوقف القتال، ثم العودة مُجدداً.
بعد 48 ساعة من مغادرتها المستشفى، داهم المخاض مريم. وقتها كانت كل الطُرق الرئيسة والكباري مسرحاً لعمليات مسلحة، ما يعني عدم إمكانية الذهاب إلى المستشفى، فكان الحل المتاح لأسرتها هو نقلها إلى أقرب مركز صحي في منطقة سكنها بالخرطوم، لكن كحال كل المرافق الصحية السودانية التي تأثرت بالاشتباكات، لم يكن يوجد في المركز أطباء مختصون، فاضطر طبيب مخ وأعصاب لإجراء العملية القيصرية.
أنجبت مريم طفلها بسلام، لكنها، وأفراد أسرتها، عاشوا أوقات عصيبة بسبب صراع الاستحواذ على السلطة بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي).
هذه واحدة من الأزمات التي يعيشها السودانيون منذ أكثر من عشرة أيام من جراء النزاع المسلح، والذي أحدث أضراراً بالغة بالقطاع الطبي الذي يفتقر للمقومات والبنية التحتية التي تمكنه من الصمود في ظروف كالتي تعيشها البلاد هذه الأيام.
في مدينة الأبيض، حاضرة ولاية شمال كردفان (400 كيلومتر غرب الخرطوم)، اضطر أطباء مستشفى الأبيض التعليمي، يوم الخميس، 20 إبريل، لتقديم الخدمات الطبية بمفردهم في غياب أطباء التخدير وطواقم التمريض لضحايا الاشتباكات بين قوات الجيش والدعم السريع. يقول مدير المستشفى الطبيب عبد الرحيم إبراهيم، لـ"العربي الجديد": "عند وقوع الاشتباكات العسكرية داخل المدينة، كان يوجد بالمستشفى خمسة أطباء، منهم نائبا أخصائي جراحة، ونائب أخصائي عظام، واثنان من الأطباء العموميين، ولم يكن يوجد ممرضون ولا كوادر تخدير ولا اختصاصي معمل. اضطر الأطباء للعمل وحدهم لمدة 48 ساعة، وكانوا يقومون بكافة الأدوار؛ فيجرون العمليات الجراحية، وينقلون المصابين إلى العنابر، ويقدمون أدوية الإسعافات والطوارئ للمصابين. لقي 97 شخصا حتفهم، وأصيب 145 بجراح متفاوتة".
يفتقر القطاع الطبي السوداني إلى البنية التحتية التي تمكنه من الصمود
يضيف إبراهيم: "لا يوجد في المستشفى في الوقت الراهن ممرضون، ولا اختصاصي أشعة بأنواعها، كرسم القلب، وموجات القلب، والرنين المغنطيسي، والأشعة المقطعية، ونستخدم وسائل بدائية في تشخيص الحالات التي نجري لها العمليات الجراحية، أو نقوم بإسعافها".
يشار إلى أن مستشفى الأبيض التعليمي هو الوحيد الذي يعمل من بين خمسة مستشفيات في المدينة، كلها توقفت عن العمل، وهي مستشفيات الحوادث، والضمان الاجتماعي، والمستشفى الكويتي، ومستشفى النساء والولادة، في حين ما زال المستشفى العسكري، ومستشفى الشرطة يعملان. وإضافة إلى مرضى ولاية شمال كردفان، يستقبل مستشفى الأبيض التعليمي الحالات المرضية من ثلاث ولايات مجاورة، هي ولايات جنوب كردفان وغرب كردفان وشرق كردفان، ويُقدر عدد مراجعيه يومياً بنحو 276 حالة.
يقول الطبيب عبد الرحيم إبراهيم: "شهدت الولاية معركة عسكرية واحدة، وإذا تكررت الاشتباكات مجدداً فإن جميع المستشفيات ستتوقف عن العمل، فلن تُجدي المحاولات الفردية لتسيير العمل. المستشفيات لا تتسع حالياً للمترددين عليها من غير جرحى الأعمال العسكرية، ولا توجد كوادر لإجراء الفحوص الطبية للمرضى، كما لا يوجد ممرضون، والعنابر مليئة بالجرحى، فماذا بوسعنا أن نفعل؟ ويتزامن كل ذلك مع زيادة المخاوف لدى الكوادر الطبية من لجوء المتصارعين إلى خطفهم، أو إجبار قوات الدعم السريع للكوادر على مرافقة قواتها لمعالجة المُصابين بسبب عدم امتلاكها عيادات متحركة بعد ضرب معسكراتها ومقراتها".
وتسبب النزاع العسكري في مفاقمة أزمة القطاع الصحي بولاية شمال كردفان، والتي شهدت في السابق أطول إضراب عن العمل للكوادر الطبية، إذ ظل العاملون في القطاع يكررون الإضرابات منذ عام 2021، للمطالبة بتحسين أوضاعهم المهنية وزيادة أجورهم، إلى أن وقعت أحداث الخميس الماضي، فكشفت عورة القطاع المتردي تماماً.
وأوضاع القطاع الصحي في ولاية الخرطوم ليست أفضل حالاً من مثيلتها في شمال كردفان، وقد شهدت الولايتان أشد المعارك ضراوة، وحتى اليوم، توقف 73 مستشفى في ولاية الخرطوم عن العمل، من جملة المستشفيات البالغ عددها 113، وترجع نقابة أطباء السودان الأمر إلى عدم توفر الأمن والسلامة العامة للمرافق الصحية والكوادر الطبية.
من جانبها، توقعت رئيس اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، الطبيبة هبة عمر إبراهيم، انهيار القطاع الصحي إذا لم يتم وقف القتال وتمكين الكوادر الطبية من الوصول إلى المرافق الصحية، وضمان سلامتهم، وتوفير الأدوية والمستلزمات الأخرى.
تقولت إبراهيم لـ"العربي الجديد": "يعمل الأطباء حالياً في وضع بالغ التعقيد، فهناك شبه انعدام للأدوية اللازمة لأقسام الطوارئ، مثل مستلزمات التخدير والمحاليل الوريدية، ويوجد نقص كبير في الدم في المستشفيات لعدم وجود متبرعين، فضلاً عن عدم وجود أكياس حفظ الدم نفسها، كما يوجد نقص في اختصاصي المعامل. تعمل الكوادر الطبية بأبسط الوسائل، وبأدوية قليلة، وفي بيئة غير آمنة، ولساعات طويلة متواصلة منذ بداية الصراع، والهدف هو إنقاذ أكبر عدد ممكن من المصابين والمرضى".
مستشفيات سودانية عدة تم إغلاقها لعدم استطاعة الكوادر الطبية الوصول إليها
لم تغادر الطبيبة هبة عمر مستشفى "البان جديد" الذي تعمل به منذ بداية الصراع في يوم السبت 15 إبريل الماضي، وهي تعمل ضمن عدد قليل من الأطباء في ظروف بالغة الصعوبة، في ظل انعدام وسائل التواصل مع العالم الخارجي، ونقص الأطعمة والمشروبات، وينام الجميع وفق مناوبات في استراحة صغيرة كانت مخصصة بالأساس للصلاة.
لم يكن الاستهداف العسكري هو السبب المباشر في تدهور القطاع الصحي في السودان، بل إن هناك عوامل مهمة أخرى، من بينها أن المقاتلين من الطرفين يكررون استخدام المرافق الصحية كدروع، مثل ما حدث في مستشفى الخرطوم التعليمي الذي تمركز داخله عدد من مقاتلي الدعم السريع بسيارات عسكرية، ما أدى لاشتعال النار في بعض أجزائه نتيجة المقذوفات التي سقطت عليه.
مستشفيات أخرى تم إغلاقها لعدم قدرة الكوادر الطبية على الوصول إليها، لأنهم تعرضوا لخطر الإصابة برصاص المتقاتلين من الجانبين، أو يتخوفون من عمليات النهب والسلب التي تقوم بها عصابات انتشرت في بعض المناطق، خصوصاً في العاصمة الخرطوم.
وكشفت الطبيبة هبة عمر أن "عدد المستشفيات التي تجري فيها عمليات جراحية حالياً تراجع إلى ثلاثة مستشفيات فقط على مستوى ولاية الخرطوم، وهي مستشفى البان جديد بالحاج يوسف، شرقي الخرطوم، ومستشفى أم درمان التعليمي، والمستشفى الدولي في بحري، شمالي الخرطوم، وما تبقى من مستشفيات عاملة تكتفي بتقديم خدمات الطوارئ والإسعافات الأولية".
وأحصت مصادر غير رسمية وقوع اكثر من 700 قتيل من المدنيين في المعارك العسكرية الدائرة، وهو رقم قابل للزيادة باستمرار من جراء عدم توقف المعارك. في حين أكد الناطق باسم وزارة الصحة السودانية منتصر محمد عثمان، لـ"العربي الجديد"، أن "عدد القتلى المسجل رسمياً حتى مساء السبت الماضي بلغ 427 قتيلاً"، مشيراً إلى أن "أعداد الوفيات خلال الأيام التالية لم يتم رصدها بعد".