- **قصص الأطفال ومعاناتهم**: الأطفال مثل عبد الله أبو فول وإسحق سالم يعانون من الإرهاق والتسلخات الجلدية بسبب الشمس الحارقة، ويعبرون عن رغبتهم في العودة لحياتهم الطبيعية.
- **التأثيرات النفسية والجسدية**: نصف أطفال غزة يعانون من أعراض ما بعد الصدمة، ويتحملون مسؤوليات كبيرة، مما يؤدي إلى أضرار بدنية ونفسية خطيرة.
يصارع عشرات الآلاف من الأطفال يومياً في أنحاء قطاع غزة في الطوابير للحصول على كميات من المساعدات الغذائية والمياه، ويقطع بعضهم مسافات طويلة للوصول إلى أماكن التوزيع، على أمل العودة بما تيسر من الطعام أو زجاجات المياه إلى حيث توجد عائلاتهم في الخيام أو مدارس الإيواء. وفي ظل مساعيها لتحسين واقع المياه داخل مناطق تجمع النازحين ومحاولات دعم بعض محطات المياه بالوقود، أصدرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بياناً، ذكرت فيه أن "أطفال قطاع غزة يقضون ما بين 6 إلى 8 ساعات يومياً في مهام جلب الماء والغذاء لأسرهم، وغالباً ما يحملون أوزاناً ثقيلة، ويمشون مسافات طويلة، بالتزامن مع تدني الظروف المعيشية للغالبية العظمى من النازحين".
بالقرب من منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، يخرج عدد كبير من الأطفال، بعضهم مجبرون من أهاليهم الذين غلبهم الجوع والعطش، للحصول على مياه وطعام. يخرجون مجموعاتٍ، بعضهم يرافقهم أحد أفراد أسرهم، وآخرون يسيرون وحدهم، والجميع يلاحقون أي تجمع توزيع، ويطاردون ما يشير إلى تجمع للحصول على المساعدات، أو "التكيات" الغذائية، أو طوابير مياه الشرب.
في طابور يفصل مخيم خانيونس للاجئين عن شارع مؤدٍّ إلى منطقة المواصي، يحمل الطفل عبد الله أبو فول (8 سنوات) جالون مياه فارغاً، يرافقه شقيقه الأكبر محمد (11 سنة) والذي يحمل زجاجات فارغة وكيس نايلون قديماً، وهما يمعنان النظر بحثاً عن أي زجاجات فارغة لتعبئة المياه. يضم الطابور الذي يقف فيه الطفلان أبو فول أطفالاً وكباراً عددهم لا يقل عن 50 فرداً، وجميعهم ينتظرون تحت أشعة الشمس الحارقة، وكان الطفلان يتصببان عرقاً بعد أن قطعا على مدار أكثر من ساعة مسافة كبيرة مشياً على الأقدام من أقصى منطقة المواصي، حيث خيمة عائلتهما إلى المنطقة التي فيها الطابور.
يقضي أطفال قطاع غزة ساعات يومياً في مهام جلب الماء والغذاء
صدم الطفلان بعد أن كانا يعتقدان أن الدور سيسير سريعاً، إذ لم يعلما أن هذا الدور تمهيد لوصول عربة كبيرة لتقوم بتعبئة خزان المياه الحديدي المخصص للتوزيع على الناس، وهو من الخزانات التي يقوم برنامج الغذاء العالمي بالإشراف عليها عبر مدها بالمياه من محطات تحلية محدودة.
بعد أكثر من ثلاث ساعات، حصل الشقيقان على بعض المياه، وكان الجالون الكبير ثقيلاً عليهما، فقررا أن يحمل كل واحد منهما الجالون لنصف الطريق، ويكمل الآخر حمل كيس النايلون الذي يضم أربع زجاجات مياه، وبعد وصولهما إلى الخيمة بالمياه استراحا قليلاً ثم توجها مجدداً إلى طابور توزيع المعلبات الغذائية التابع لوكالة "اونروا"، لكن هذه المرة كانت معهما والدتهما.
يقول عبد الله لـ"العربي الجديد": "أصيب والدي في الحرب، وسبّبت إصابته شللاً في قدمه ويده اليمنى، ما يجعله غير قادر على الحركة، ونحن رجال كما أخبرنا والدي، لكني اشتقت إلى المدرسة، وأريد العودة إلى منزلنا، وعندما نعود سيكون لدينا سوبر ماركت أو سوق نشتري منه، ولا نضطر إلى قطع مسافات كبيرة تحت الشمس للحصول على الأغراض اليومية، كما أن لدينا في المنزل برميل مياه كبيراً أسود نعبئه فيه كل أسبوعين".
نزحت أسرة أبو فول من منطقة الصفطاوي شمالي قطاع غزة في بداية الحرب، ولا يكاد الفتى محمد يعرف الحي الذي كانت تعيش فيه الأسرة بسبب الدمار الكبير، كما لا يعلم مصير المنزل، وقد أصبح يكره اللحظات التي يذهب فيها لتعبئة المياه وإحضار المساعدات، وهو يشعر بإرهاق شديد على عكس شقيقه عبد الله الذي يشعر في بعض اللحظات أنها مهمة ممتعة.
يقول محمد: "أحب الليل لأننا نجلس في الخيمة أو ننام، وأكره الصباح، فعادة نستيقظ على أصوات القصف، أو على طلبات المنزل، فنذهب للبحث عن الطعام والشراب. أكره الناس الذين يخبرونني أنني رجل منذ بداية الحرب، وأعتقد انهم سيعاملونني بصفتي طفلاً مجدداً حين تنتهي الحرب، وأشعر بالتعب من حمل جالون المياه الثقيل يومياً، وشقيقي عبد الله لا يستطيع حمله في كثير من الأوقات".
بدوره، يتوجه الطفل إسحق سالم (10 سنوات) مع عدد من أبناء عمومته يومياً إلى مناطق الطوابير للحصول على الطعام والمياه، ويقول إن جولتهم اليومية تبدأ في الساعة الثامنة صباحاً، وتنتهي بين الثانية أو الثالثة عصراً، وإنه يخرج مع المجموعة حتى لا يشعر بالملل، وإن التجمع يخفف مشقة الطريق تحت أشعة الشمس الحارقة التي تعرض بسببها لتسلخات، وتغير لون بشرته.
يقول إسحق لـ"العربي الجديد": "كان الجميع يشبهونني باللاعب الإنكليزي فيل فودين، والذي أصبحت متابعاً له ولفريقه مانشستر سيتي، قبل أن ينقطع التلفاز، ويتوقف الإنترنت بسبب العدوان. أحمل يومياً جالونات مياه ثقيلة، وأتناوب مع أبناء عمومتي على حملها، ووالدي يخرج يومياً لجلب الطعام والأدوية لإخوتي المرضى ووالدتي التي أصيبت في الحرب خلال وجودها في منزل جدي حيث استشهد ثلاثة من أخوالي. أريد أن تنتهي الحرب، ولا أريد مواصلة حمل جالونات المياه لأنني أشعر بالتعب، وأريد العودة إلى منزلنا، وأن أعود لمشاهدة التلفاز، ومتابعة الدوري الإنكليزي لكرة القدم".
وذكرت وكالة "أونروا" أن مرافق الصرف الصحي والبنية التحتية في قطاع غزة معرضة للخطر الشديد، ما يجبر آلاف الأسر على الاعتماد على مياه البحر في الاستحمام والتنظيف، والشرب من آبار جوفية مالحة، أو البحث في الخزانات القديمة عن المياه، وأكدت أن نصيب الفرد في قطاع غزة من المياه يومياً لا يتجاوز 3 لترات، ما يدفع الأسر وأطفالهم إلى العمل على تأمين ما يكفيهم من الماء.
وتشير بيانات "أونروا" إلى أن نصف أطفال قطاع غزة تعرضوا أثناء العدوان الإسرائيلي المتواصل لأعراض ما بعد الصدمة، وأن كثيرين منهم يتحملون مشقة رعاية عائلاتهم، والمشاركة في تدبير الظروف، في حين تنعدم كامل حقوق الأطفال في القطاع، وتشجع الأوضاع القائمة عدداً كبيراً منهم على العمل، أو البحث بين الأنقاض عن أغراض لبيعها، والحصول على الطعام بكل الطرق.
ويبين مصدر من "أونروا" لـ"العربي الجديد"، أن الوكالة سجلت أكثر من 350 ألف طفل مصابين بصدمات نفسية، وأن قرابة 60 ألفاً منهم مصابون بأمراض نفسية عضوية، وذلك بناءً على تقييم الطواقم الاجتماعية والنفسية التي تجري جلسات نفسية مع الأسر التي تعرضت لنزوح متكرر، وبعضهم يعانون أعراضاً نفسية خطيرة نتيجة تحملهم مسؤوليات أسرهم، وأن التسجيل هدفه خضوعهم للعلاج بعد انتهاء العدوان في المراكز الطبية للوكالة.
يعمل طبيب الأطفال إبراهيم خلف متنقلاً بين عيادات ميدانية ومراكز صحية في قطاع غزة، وهو ضمن الطواقم الطبية التي تنقلت بصورة متكررة بسبب النزوح، وتشغله وزارة الصحة مجدداً في المنطقة التي ينزح إليها. يشدد خلف على رصد أضرار بدنية ونفسية متعددة لحقت بأطفال غزة، سواء من يقومون بمرافقة ذويهم، أو تحمل مسؤوليات أسرهم في تأمين الطعام والشراب، وهذا الحمل الثقيل المتكرر يفوق قدراتهم الجسدية والنفسية.
يضيف خلف لـ"العربي الجديد"، أن العديد من الأطفال مصابون بمرض الفتاق، وهو يحصل عندما يندفع جزء من الجسم من خلال جزء ضعيف في العضلات أو الجدران النسيجية المحيطة بها مثل البطن أو السرة، وقد لاحظنا وجوده في أجساد كثير من الأطفال أثناء العدوان، ومن بين الأسباب المباشرة اضطرارهم إلى حمل أشياء ثقيلة تفوق قدرة أجسادهم الصغيرة.
يتابع: "أشاهد يومياً أطفالاً أعمارهم أقل من عشر سنوات يحملون أكياساً وأغراضاً منزلية أكبر من حجمهم، ولا أملك بصفتي طبيباً سوى نصح الأهل بخطورة ذلك، لكننا جميعاً عاجزون عن منع الناس من استخدام أطفالهم في قضاء حوائجهم، فالكل جائعون وعطشى، لكن هؤلاء الأطفال سيواجهون مستقبلاً مظلماً، إضافة إلى ضعف النمو، وعدم تكوين العضلات بشكل صحي، وكذلك العظام، أما الصحة العقلية فهي متدهورة بشكل ملحوظ في ظل أن الجميع يعيشون في بيئة عدوانية".