طُرّز كل اسم من أسماء 120 مفقوداً ومخطوفاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية بخيطٍ ذهبي نسجته أيادي الأمهات والزوجات والأبناء والأحباء على قطعة قماشٍ مخمليّة، لتعلق جدارية في إحدى قاعات بيت بيروت (البيت الأصفر)، الذي ما زال ماثلاً وسط العاصمة وعلى جدرانه آثار الرصاص والقصف والقذائف، كشاهد على بشاعة الحرب وخسائرها الجسيمة.
الجدارية التي اختارتها لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، تعد صرخة جديدة بحلول الذكرى الـ47 للحرب المدمّرة، أُزيح الستار عنها اليوم، لتختزل بين خيوطها الذهبية المشعّة عذابات الأهالي ودموعهم وحرقتهم على مدى عقود وسنوات، كما لتحفر أسماء المفقودين والمخفيين في ذاكرة اللبنانيين والمقيمين.
إلا أنّ الجدارية المحبوكة بالألم والغصّة ولوعة الفقدان بدت عابقة بألوان الحياة، وكأنّها تردّد معهم رسالة أمل ورجاء بعودة الأحباب وعناقهم بعد طول انتظار، وتجدّد في تفاصيلها حقّ الأهالي بمعرفة مصير ما يقارب 17 ألف مفقود ومخطوف من اللبنانيّين والمقيمين في لبنان.
فقدت الفلسطينية حسناء عبد الله العلي والدها منذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وكان لا يتجاوز 45 عاماً حينها، لتفقد لاحقاً في العام نفسه شقيقها عدنان إثر مجزرة صبرا وشاتيلا، وهو بعمر 17 عاماً، وتقول بحسرة لـ"العربي الجديد": "لم نعرف عنهما أي شيء منذ ذلك الوقت، لكن الأمل كبير، وقد سمعنا أنّهما في سجون الاحتلال وليس في سورية. كلّ ما نريده هو معرفة مصيريهما".
حسناء، التي تستذكر أمنية والدتها وهي على فراش الموت، والتي كانت تردّد عبارة "أريد رؤيتهما ولو لمحة بصر"، تأسف لعدم تحقق الأمنية، وتقول: "ستبقى هذه غصّة في قلبي، ولا أعرف إن كنتُ سأواجه مصير والدتي".
بيدها المكسورة، حاولت العلي كتابة اسمي والدها وشقيقها، فساعدتها جارتها على إتمام التطريز، وتقول: "أبي وشقيقي محفوران في القلب، وليس فقط في غرزة إبرة. لم ولن أنساهما، يعيشان في عروقي ولا يفارقان تفكيري، وكم أتمنّى أن تتحقّق أمنيتي ولو في آخر لحظة من عمري".
أما مريم سعيدي، التي استفاقت على خاطرةٍ دوّنتها في دفترها الصغير موقّعة باسم "الغالي"، فتروي في حديث لـ "العربي الجديد"، كيف اختفى ابنها ماهر قصير عام 1982 من داخل الجامعة اللبنانية في الحدث (قضاء بعبدا)، وهو بعمر 15 عاماً ونصف العام.
وتتساءل كيف بات شكله بعد أربعين عاماً، مردّدةً: "شَعرك الخرّوبي العسلي، كيف أصبح؟ هل بات فضّيّاً أكله الشيب؟ كيف لنا أن نتخيّلك، بأيّ صورة، ونحن الذين نتعلّق بك ونخاطبك روحيّاً، وكأنّ في ذلك خلاصنا وصلاتنا؟".
وشارك في الجدارية عدد من الأمّهات وبعض الآباء. وترى مريم أنّها "تعبير إضافي عن حضور المفقود الذي لم يغب، ولن يغيب مهما طالت السنوات. هي امتداد لصرخاتنا المتواصلة، فالمفقود هو ابن هذا الوطن وهو الأساس، وليس مجرّد عدد. ويحقّ لذويه، مِن الذين ما زالوا على قيد الحياة، أن يعرفوا مصيره. يكفينا عذاباً وقهراً".
من جهتها، تكشف رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد حلواني أنّه "باتت لدينا بموجب القانون هيئة وطنية رسمية مستقلة مهمّتها الوحيدة الكشف عن مصير كلّ المفقودين. والجديد اليوم في القضية صدور مرسوم في 8 إبريل/ نيسان الجاري، بتعيين قاضٍ جديد يحلّ مكان المستقيل. وهذه علامة إيجابية من الحكومة اللبنانية، على أمل أن تواصل عملها من أجل تعيين محاميَين اثنين وطبيب شرعي، ولا سيّما أنّ استقالة الأعضاء الأربعة انعكست على عمل الهيئة التي انطلقت منذ عامين، وكانت إحدى العراقيل التي تواجهها".
وتؤكّد لـ"العربي الجديد"، أنّ "الهيئة الوطنية برئيسها وأعضائها تثابر على تحضير الأنظمة الداخلية بانتظار إزالة كلّ العراقيل". وفي السياق، يأسف حيدر عماشا، من جمعية "محاربون من أجل السلام"، لتقاعس السلطة عن "إرساء السلام الحقيقي عبر معرفة مصير المفقودين وإحقاق نوع من العدالة الانتقالية تروي ولو قليلاً ظمأ الأهالي، لا سيّما في قضية تُعتبر من أكثر القضايا الشائكة في لبنان، فآثار الحرب لا تزال ترافقنا من جراء العفو العام الاستثنائي الذي شهدناه".
يتابع في حديثه لـ"العربي الجديد": "كنّا نخطط لتخصيص جدارٍ طويل في بيروت أو الجوار، يجمع كل أسماء ضحايا الحرب. إلا أن بلدية بيروت والبلديات المجاورة رفضت ذلك، حتى جدار لا يحصل عليه المفقودون والمخفيون، لأنّ المجرمين ذاتهم باتوا هم أركان السلطة، فهم الذين قتلوا وذبحوا على الهوية وأعطوا الأوامر بالخطف والقتل، ولا مصلحة لهم بمعرفة الحقائق وفضح جرائمهم وارتكاباتهم".
وكانت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان قد أحيت ذكرى الحرب الأهلية تحت شعار "تنذكر تما تنعاد"، وتخلّلتها كلمات لكلّ من حلواني باسم اللجنة، بالإضافة إلى كلمة رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان سيمون كازابيانكا ونائب رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً زياد عاشور. وشدّدت الكلمات على ضرورة تفعيل عمل الهيئة الوطنية وتكثيف الجهود للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً.
وعلى وقع أغنية "يا مرسال المراسيل، خذلي بدربك هالمنديل واعطيه لحبيبي"، عُرِض وثائقي قصير بعنوان "مشروع الجدارية"، بالتزامن مع إزاحة الستار عن الجدارية الرمزية، لتصدح مع صوت فيروز أصوات الأهالي المشبعة بالحزن والآلام، مردّدين: "عالداير طرّزتو شوي إيدي والإسوارة، حيّكتله اسمه عليه بخيطان السنارة... كتبتلو قصة عمر بدموعي الكتيبي...".