منذ 25 عاماً، تواظب اليمنية مريم أحمد عبده صالح، البالغة من العمر 85 عاماً، على تقديم وجبات غذائية وفواكه وغير ذلك للمرضى في مستشفى الأمراض النفسية العام في مدينة تعز وسط اليمن، وذلك يومَي الإثنين والسبت من كلّ أسبوع.
ويأتي نشاط المرأة الثمانينية هذا في إطار سلسلة من المبادرات الإنسانية التي تنخرط فيها منذ 55 عاماً تقريباً. وهي كانت قد بدأت تنشط في مجال العمل الخيري عندما كانت شابة، وما أتت به لم يُحصَر بالمرضى النفسيين، بل شمل الأيتام ومرضى الجذام في المستشفى العام والمشرّدين في الشوارع والأسر الفقيرة والأرامل والنساء السجينات في إصلاحية السجن المركزي بمدينة تعز.
وتواصل مريم نشاطها الأخير بمفردها، فتخرج من منزلها في مدينة تعز القديمة صباح اليومَين المحدّدَين للتسوّق. وتشتري التمر والفواكه والخبز ووجبات غذائية جاهزة، ثمّ تُحضّر الأطعمة غير الجاهزة وتوضّبها في أكياس قبل أن تتوجّه نحو المستشفى الحكومي وتوزّع ما في جعبتها على نزلاء هناك البالغ عددهم 140 مريضاً نفسياً.
ويتطوّع السائق محمد المعمري، منذ عام ونصف عام تقريباً، لمرافقتها ونقلها مجاناً في مركبته. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "مريم تحظى بحبّ المرضى النفسيين في المستشفى الذين يتسابقون متوجّهين صوبها فور وصولها، وينادونها الأم مريم. ويصطفون لأخذ ما جلبته، ويجلسون بالقرب منها ليتناولوا وجباتهم ويتحدّثوا معها".
وتعرف مريم أسماء المرضى النفسيين في المصحة واحتياجاتهم وما يعانون منه، وهي تعمل بقدر الإمكان على مواساتهم وتفقّد أحوالهم في حين تخلّت عنهم أسرهم والسلطات والمنظمات، بحسب ما يلفت ناشطون.
وعلى الرغم من كبر سنّها والوعكات الصحية التي تصيبها بين الحين والآخر، فإنّ مريم تحرص على زيارة هؤلاء المرضى بانتظام، علماً أنّها لم تنقطع عن زيارتهم حتى في أثناء المواجهات المسلحة التي قامت في السابق بالقرب من المستشفى. وهي تعاملهم كأبنائها وترفض التخلي عنهم. فلا تستجيب بالتالي لدعوة بناتها وأبنائها المقيمين في مدن يمنية أخرى للانتقال والعيش معهم إذ إنّها في حاجة إلى من يعتني بها ويرعاها، خصوصاً في مثل هذه السنّ.
وتقول مريم لـ"العربي الجديد" إنّ ثمّة أشخاصاً يملكون أموالاً كثيرة لكنّهم يتجاهلون المرضى النفسيين، في حين ينبغي عليهم أن يقفوا إلى جانبهم ويساعدوهم فيما يساعدون كذلك المحتاجين والضعفاء والمشرّدين.
من جهته، يخبر مدير عام مستشفى الأمراض النفسية العام في تعز عادل ملهي "العربي الجديد": "عرفتُ مريم مذ تولّيتُ إدارة المستشفى قبل 20 عاماً تقريباً. هي امرأة بسيطة وليست غنيّة أو من أهل الحظوة، لكنّ روح الطيبة وحبّ الخير ومساعدة الآخرين تتجسّد فيها".
يضيف ملهي أنّ "مريم تقدّم للمرضى الكسوة والطعام، وتساعدنا في الفترة الممتدة من الصباح إلى الظهيرة في تجاوز العجز الحاصل في توفير الغذاء لنزلاء المستشفى". ويؤكد أنّ "ما تقدّمه هي يفوق ما يقدّمه الأثرياء، ويُقدَّر بقيمته المعنوية ونبل العمل ونقاء الهدف والرغبة الكبيرة في تقديم المساعدة، وذلك على الرغم من تواضع الإمكانيات وسط غياب الدعم الرسمي وكذلك المجتمعي".
وبهدف تمويل نشاطها الخيري، عملت مريم في بيع المنتجات الزراعية، ثم أقامت بسطة لبيع الخضراوات وبعدها فتحت محلاً للمواد الغذائية. وفي خلال الحرب، توقّفت عن العمل لتقدّمها في السنّ، بحسب ما تشير.
وبالتالي، منذ اندلاع الحرب في عام 2015، توفّر المال اللازم لمساعدة هؤلاء المرضى من مصروفها الخاص الذي تتلقّاه شهرياً من ابنتها، وكذلك من عائدات متواضعة تجنيها في مقابل قيامها بالتدليك، إلى جانب دعم متقطع ومتواضع تتلقّاه من فاعلي الخير.
ويُطلق عليها إعلاميون وناشطون على منصات التواصل الاجتماعي ألقاباً عديدة من قبيل "أمّ الخير" و"أمّ المنسيّين" وحتى "أمّ المجانين" في إشارة إلى الأشخاص المصابين بأمراض نفسية وعصبية، ويعبّرون عن دهشة مستمرّة إزاء ما قامت به على مدى عقود من الزمن، عاصرت في خلالها مسؤولين ورؤساء حكومات من دون أن تتلقّى دعماً من أيّ منهم.