ربما كان طبيعياً أن يشعر الأوروبيون الشماليون، خصوصاً من الدول الإسكندنافية، الذين يزورون إقليم الأندلس في إسبانيا، بأنّ درجات حرارة الصيف فيها لا تطاق، فهؤلاء بالتأكيد غير معتادين على أن يكون الصيف في بلادهم مثل قرطبة، حيث تتجاوز الحرارة 43 درجة مئوية. لكن الأمر لم يعد يقتصر على السياح من دول إسكندنافيا، ويشمل أيضاً الإسبان والإيطاليين والفرنسيين الأكثر اعتياداً على أجواء صيف لطيفة نسبياً، لكنّهم أصبحوا يعيشون في أوضاع غير اعتيادية على صعيد الجفاف وارتفاع درجات حرارة، وموجات الحرّ المتتالية.
وفيما تتعايش المناطق في جنوب إسبانيا هذا الصيف مع ظروف هبوب الموجات الحارّة من أفريقيا، لم تسلم فرنسا وإيطاليا، منذ يونيو/ حزيران الماضي، من انتشار الجفاف الذي ضرب بحيرات، وأدى إلى اندلاع حرائق كبيرة، ما ينذر بمستجدات مناخية خطرة في قارة أوروبا.
قبل 25 عاماً عاشت مناطق شمال القارة الأوروبية فصول صيف بدرجات حرارة تتراوح بين 22 و25 درجة مئوية، ووصلت الحرارة في حالات استثنائية إلى 27 درجة مئوية، وذلك لأيام قليلة فقط، في ظاهرة أطلق عليها الخبراء حينها اسم "الطقس المداري". أما في شمال القارة، فلم يكن في الحسبان أن يفكر السويديون والدنماركيون بزرع العنب والتين والزيتون في حدائق منازلهم. لكنّ الواقع تغيّر اليوم، وما كان حكراً على منطقة جنوب القارة، خصوصاً في حوض البحر الأبيض المتوسط، أصبح أكثر انتشاراً في دول كان الشتاء فيها يترافق مع تجمّد بحيرات وأجزاء كبيرة من الشواطئ.
الأمور ليست بخير
وقبل سنوات قليلة، ضربت الدنمارك موجة جفاف غير مسبوقة، وحذر خبراء عام 2018 من أن "وصول الأمور إلى هذا المستوى في إسكندنافيا الباردة يشير إلى أن الأمور لن تكون بخير في مستقبل القارة". وهذا العام، استعاد الأوروبيون ذكرى ما حصل عام 2003، حين قضى عشرات الآلاف في موجات الحرّ والجفاف والارتفاع القياسي في درجات الحرارة. ويرى باحثون دوليون أنّ التفسير الأقرب إلى الواقع لأسباب موجات الحرّ في أوروبا يتعلق بالتيارات التي تهبّ من الغرب إلى الشرق، وتسفر عن موجات رياح ترتفع عدة كيلومترات في الغلاف الجوي.
ويعتبر باحثون في ألمانيا وهولندا والولايات المتحدة أنّه "رغم أنّ موجات الحرّ الأخيرة ليست جديدة، لكن حدوثها بوتيرة أشد في السنوات الأخيرة، خصوصاً في مواسم صيف 2018 و2019 و2020، يجعلنا نتوقع أن تزداد سوءاً هذا العام وفي الأعوام المقبلة". ويفيد تقرير نشره خبراء بمعهد بوتسدام للمناخ في ألمانيا، في مجلة ناتشور كومينيكايشن، بأنّ موجات الحرارة في أوروبا باتت أكثر شدة بمعدل ثلاث إلى أربع مرات مقارنة بباقي المناطق، وبينها في خطوط العرض الشمالية الوسطى مثل الولايات المتحدة وكندا.
وفي يونيو/ حزيران الماضي، بدأت مناطق كثيرة حول العالم تستشعر التغّيرات من خلال موجات جفاف وارتفاع في درجات الحرارة، وهو ما شهدته اليابان نهاية ذلك الشهر، في ظاهرة لم تعهدها منذ عام 1875. وقبل اليابان، أصاب الجفاف الهند، وحالياً تضرب موجاته مناطق في أوروبا وشمال أفريقيا، ويتوقع أن تتوسع الظاهرة إلى مناطق أخرى حول العالم تشهد عادة ارتفاعاً في درجات الحرارة خلال الصيف.
حرارة القطبين المتقاربة
وأثارت استنتاجات الخبراء الدوليين عن تأثر "التيارات النفاثة" وظهور ضعف فيها يرتبط بالتغيرات المناخية، هواجس كثيرة لدى زملاء لهم يكررون التحذير من خطورة التغيّرات.
ويؤكد رئيس وحدة أبحاث المناخ في جامعة جنوب الدنمارك، سيباستيان ميرنيلد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "ما يجري يؤكد خطورة التغيّر المناخي"، ويشدد في الوقت نفسه على أن "اختلاف درجات الحرارة في القطبين الشمالي والجنوبي بات أقل من السابق، ما يعني أن التيار النفاث البارد أصبح أضعف، ويوفر ظروفاً أفضل لتدفق الهواء الدافئ من شمال أفريقيا".
ويبدو أن التفسير المقلق للخبراء لا ينحصر في تأكيد الواقع نظرياتهم وتحذيراتهم من التغيّرات المناخية، بل بشدة وطأة التغيّرات المرتبطة بالتيارات الحارة، والتي تزداد في بعض المناطق، خصوصاً تلك التي تحتوي على قمم ووديان، مثل أوروبا الغربية، وصولاً إلى منطقة البلطيق وإسكندنافيا، وجميعها تواجه ضعف التيار القطبي لمواجهة الحرّ.
ويوضح خبير المناخ الدنماركي في آرهوس، ثور ينس كرانسين، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "ما شهدته مناطق جنوبي فرنسا وإسبانيا وصولاً إلى مناطق في شرق أوروبا خلال الشهرين الماضيين يشير إلى أن كثافة موجات الحرارة المرتفعة ليست ظاهرة عابرة". ويتوقع بالتالي أن تسوء الأوضاع في المستقبل، علماً أن لجنة الأمم المتحدة للمناخ تقدر بأن ارتفاع درجات الحرارة يزيد تطرف المناخ، لأن التيار الحار والجاف الذي يهبّ من شمال أفريقيا يتجه شمالاً بعرض هائل، ويصيب مناطق كثيرة في العالم.
أيضاً، يعني اختلال عمل التيارات أن الباب سيكون مفتوحاً أمام حصول تطرف مناخي في فصل الشتاء. ويتوقع الخبراء أن تؤثر الظاهرة العكسية من خلال تيار القطب الشمالي الذي سيتجه في شكل أسهل نحو أوروبا ولفترات أطول "ما يؤثر على الاعتدال المناخي، ويفضي إلى التطرف المناخي".
لا بشائر كبيرة
في كلّ الأحوال، لا تحمل زراعة أشجار مثمرة يوجد موطنها الأصلي في منطقة البحر المتوسط، أقصى شمالي أوروبا، بشائر كبيرة لمن يعرفون الآثار السلبية الأخرى لتطرف المناخ. ويحذر هؤلاء من أن موجة الهواء شديد الحرارة التي تصل فتراتها إلى ثلاثة أو أربعة أسابيع أو حتى أكثر، ستؤثر في جفاف التربة، وتحمل آثاراً كارثية للقطاعات الزراعية الأوروبية الجنوبية التي تعتبر مناطقها فعلاً بين أهم مناطق توفير احتياجات أوروبا من الحقول. وموجة الحرّ الأخيرة في وادي بو شمالي إيطاليا ومعظم إقليم الأندلس الإسباني تذكر الأوروبيين بمخاطر استمرار التغيّرات المناخية ليس فقط على صحة البشر، بل حتى على السلات الغذائية وتكاليف الإنتاج، حيث يلاحظ انحباس المطر وجفاف الأرض وتبخر المياه بسرعة.
وما شهدته الهند والباكستان والصين واليابان ودول أخرى في شرق آسيا من موجات حرّ منذ ربيع العام الحالي، يشمل مناطق عربية كثيرة أيضاً، ما يشير بوضوح إلى أن تأثر التيارات الهوائية النفاثة بالمتغيرات المناخية السلبية عالمياً لن يترك منطقة دون أخرى فوق الأرض.
نموذج إيطاليا
وكانت إيطاليا أعلنت أخيراً حال الطوارئ بسبب الموجات الحارّة والجفاف في عدد من الأماكن، بينها سهل بو. وقال رئيس حكومتها ماريو دراغي: "ستمتد خطة الطوارئ حتى بداية 2023 في لومباردي وبيدمونتي"، علماً أنّها خصصت نحو 31 مليار يورو كحزمة لمساعدة المناطق المتضررة، خصوصاً تلك في الشمال التي ضرب الجفاف مياه بحيراتها الكبيرة في شكل غير عادي، وبينها غاردا ولومبارديا. وظهر ذلك جلياً في نهر بو الذي يرتبط جنوباً بالبندقية، من خلال انخفاض مستوى مياهه إلى مستوى غير مسبوق منذ 70 عاماً، واختلاط المياه المالحة من البحر بتلك في النهر. وفرضت السلطات قيوداً على استخدام المياه في مدينتي بيزا وفيرونا، وأوقفت عمل النوافير في البندقية وميلانو.
كذلك، اضطرت السلطات الإيطالية إلى فرض غرامات مالية تصل إلى 500 دولار على جميع مستخدمي المياه في حمامات السباحة وغسل السيارات، كما حظرت ري الحدائق والمرافق الرياضية لمواجهة أزمة الجفاف.
وكانت منظمة كولديريتي الزراعية الأكبر في إيطاليا، حذرت من أن الجفاف قد يكلف أكثر من 30 في المائة من الإنتاج الزراعي للبلاد، وأن نصف الماشية في المزارع الممتدة على سهل بو مهددة بالنفوق.
ووصلت التحذيرات الكارثية في يوليو/ تموز الجاري إلى البرتغال وإسبانيا، إذ يقول الخبراء في البلدين إنّ الجفاف الذي انتشر لم يسبق له مثيل منذ ألف عام. وهؤلاء وضعوا اللوم أيضاً على التغيّرات المناخية التي تتسبب في ضغط جوي يجلب الحرارة، كما تؤثر التغيرات في شكل مدمر بموسمي الزيتون والعنب في هذه المناطق الأوروبية الجنوبية.