ما زالت القضية الأبرز في الولايات المتحدة الأميركية اليوم التسريب الذي نشره موقع بوليتيكو الإخباري والذي يكشف أنّ المحكمة الدستورية العليا تتّجه إلى إلغاء قرار يسمح بالإجهاض ويعود إلى عام 1973، علماً أنّه حقّ دستوري أساسي لملايين الأميركيات.
في حادثة نادرة، سُرّبت، الإثنين الماضي، مسوّدة رأي كتبها قاضي المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة الأميركية، صامويل أليتو، تظهر استعداد المحكمة التي تسيطر عليها أغلبية من القضاة المحافظين (ستّة عُيّنوا من قبل رؤساء جمهوريين وثلاثة ديمقراطيين) للتراجع عن القرار الصادر في عام 1973 في القضية المعروفة باسم "رو ضد ويد"، والذي منح النساء الحقّ في البتّ في الشؤون المتعلقة بأجسادهنّ وكفل لهنّ الحماية القانونية في حال الإجهاض.
وسمح القرار آنذاك للكوادر الطبية بتقديم المساعدة وإجراء عمليات الإجهاض للنساء اللواتي يرغبنَ في ذلك، حتى الأسابيع المتراوحة ما بين 22 و24 من الحمل، أي طالما الجنين غير قادر على البقاء حياً في خارج الرحم، من دون أن يؤدّي ذلك إلى تجريم تلك الكوادر الطبية والصحية، مثلما كان يحدث قبل ذلك. وبحسب القرار نفسه، لم تعد النساء مضطرات إلى تعليل قرارهنّ في السياق.
في العقود الخمسة التي تلت صدور القرار، فرضت عشرات الولايات الأميركية عراقيل وسنّت قوانين مختلفة من شأنها الحدّ من قدرة النساء على ممارسة حقّهن في هذا الإطار، الأمر الذي زاد الأمور تعقيداً فيما بقي هذا الحقّ نظرياً مكفولاً بحسب قرار المحكمة الدستورية. من هنا، فإنّ التراجع عن القرار سيوف يترك الحقّ في الإجهاض في يد الولايات المختلفة، ويعيد نساء كثيرات إلى "دوامة القتال" من أجل حقّ أساسي يتعلّق بتقرير مصيرهنّ، ويعيد كذلك المدافعين عن ذلك الحق والحقوق ذات الصلة إلى نقطة البداية أو بالقرب منها.
ومن المتوقع أن يصدر الحكم الرسمي في يونيو/ حزيران المقبل. وفي حال لم يتراجع أيّ من القضاة التسعة عن موقفه، علماً أنّ تسريبات تشير إلى أنّ خمسة يؤيّدون تغيير الحكم الصادر في قضية "رو ضد ويد" فيما يعارض الأربعة الآخرون، فإنّ تبعات ذلك سوف تظهر في مجالات عدّة، من بينها الصحة الإنجابية، حتى في خارج الولايات المتحدة الأميركية. أمّا في الداخل فالتبعات سوف تطاول خصوصاً النساء الفقيرات.
وبحسب مسوّدة الرأي المسرّبة التي نشرها موقع بوليتيكو الإخباري الأميركي، والتي جاءت في 98 صفحة، يشير أليتو إلى أنّ القرار حول قضية الإجهاض يجب أن "يعود إلى ممثلي الشعب المنتخبين". ويبدو أنّ المحكمة سوف تعطي الولايات بشكل منفرد إمكانية حظر الإجهاض أو السماح به. وقد عمل مشرعون في ولايات كثيرة، خصوصاً تلك التي يحكمها الجمهوريون، في العقود الخمسة الماضية، على الحدّ من قدرة النساء على الحصول على المساعدة الطبية اللازمة لإنهاء الحمل، وكذلك على الخدمات الإنجابية المتعلقة بمنع الحمل في حال رغبنَ في الأمر، وذلك من خلال خطوات تلتفّ على قرار المحكمة الدستورية الصادر في عام 1973 والذي ثُبّت في قرار لاحق في عام 1992 متعلق بالخدمات الإنجابية، وإن أدّى إلى بعض التحديات والقيود.
قيود وعقبات
في هذا الإطار، أقرّت ولاية تكساس (حاكمها جمهوري) في سبتمبر/ أيلول الماضي على سبيل المثال قانوناً يحظر اللجوء إلى الإجهاض بعد ستة أسابيع من الحمل، وهي فترة لا تدرك فيها نساء كثيرات أنهنّ حوامل. وثمّة ولايات أخرى سنّت تشريعات مشابهة، مثل أوكلاهوما، أو عمدت إلى حظر شبه شامل على الإجهاض، مع حالات استثنائية في حالة الاغتصاب أو تشكيل الحمل خطراً على حياة المرأة. وقد دفع ذلك في اتّجاه فتح الباب أمام مقاضاتها لعدم دستورية تشريعاتها. وهذا يعني أنّه في حال قرّرت المحكمة الدستورية إلغاء قرارها آنف الذكر، فإنّه سوف يُصار بشكل شبه فوري إلى تفعيل تشريعات تمنع و/أو تجرّم الإجهاض، مع استثناءات بسيطة، في 26 ولاية أميركية معظمها في الجنوب والوسط، الأمر الذي يحول دون حصول أكثر من 136 مليون امرأة على تلك الخدمات، بحسب معهد غوتماخر، وهو منظمة غير حكومية متخصصة في البحوث والصحة الإنجابية في الولايات المتحدة الأميركية.
لكن، حتى في الظروف الراهنة، عمدت ولايات كثيرة إلى وضع عقبات في تطبيقها حقّ النساء في الإجهاض وحقّهنّ في اتّخاذ القرار بشأن أجسادهن، عن طريق جعل الحصول على تلك الخدمات صعباً أو شبه مستحيل. واحدة من تلك الطرق تكمن في منح ترخيص لعيادة واحدة في كلّ ولاية. وثمّة ولايات ذات مساحات شاسعة والسفر في داخلها أو الوصول إلى تلك العيادات يتطلبان ساعات طويلة من التنقّل وتكاليف مادية كبيرة وتغيّباً عن العمل، الأمر الذي يجعل الحصول على تلك الخدمات صعباً أو شبه مستحيل، خصوصاً بالنسبة إلى النساء الفقيرات اللواتي لا يستطعنَ تحمّل تلك التكاليف، وهنّ في الغالب من الأقليات. كذلك فإنّ كثيرات من هؤلاء الفقيرات هنّ بلا تأمين صحي أو أنّ التأمين لا يغطّي تكاليف تلك العمليات أو الأدوية ذات الصلة.
ويشير معهد غوتماخر إلى أنّ قوانين وتشريعات وكذلك عقبات كثيرة وُضعت للتضييق على النساء، بعد تولّي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب السلطة في البلاد. ويبيّن أنّ العام الماضي لوحده شهد سنّ 108 تشريعات وقيود على الإجهاض في 19 ولاية أميركية. أمّا مجموع تلك القيود منذ عام 1973، أي بعد إصدار المحكمة الدستورية قرارها الخاص بقضية "رو ضد ويد"، فوصل إلى 1338 تشريعاً وتضييقاً للحؤول دون توفير الخدمات للنساء والتراخيص للأطباء حتى يتمكنوا من إجراء العمليات حتى لو كانوا قادرين على ذلك. ومن بين تلك الولايات تكساس وألاباما اللتان تُعدّان من أكثر الولايات تشدداً في وجه الإجهاض الذي يُعَدّ القيام به أمراً شبه مستحيل، كذلك ولايات ساوث داكوتا ونورث داكوتا وويست فرجينيا وكنتاكي وميسوري وميسيسبي وأريزونا وأوكلاهوما وميشيغان وغيرها.
المتشدّدون يضربون
ويستهدف ناشطون متشدّدون، في الغالب من المسيحيين المعارضين للإجهاض، النساء اللواتي يلجأنَ إلى الإجهاض. فيعمدون إلى التضييق عليهنّ وملاحقتهنّ وملاحقة عائلاتهنّ، ويهدّدون كذلك الكوادر الطبية ويهجمون على العيادات ويتظاهرون أمامها، فيما ينعتون النساء اللواتي يتوجّهنَ إلى تلك العيادات بأبشع النعوت ويشتمونهنّ وغير ذلك من الأساليب.
وفي السنوات الأخيرة، تزايد نشاط هؤلاء ورقعته والتكتيكات المستخدمة والتنسيق بينهم، مع توفّر دعم مادي ضخم يصل إلى ملايين الدولارات يوفّرها متطرّفون متدينون أغنياء معارضون لممارسة المرأة حقها في إنهاء الحمل، وقد يأتي ذلك أيضاً بأموال دافعي الضرائب. وينشط هؤلاء خصوصاً ضدّ النساء الفقيرات اللواتي يقصدنَ عيادات تقدّم خدماتها مجاناً أو بتكلفة منخفضة.
وتُستخدم تكتيكات مختلفة، من بينها تشييد مراكز تدّعي أنّها تقدّم خدمات إنجابية مجانية، وبمجرّد أن تصل امرأة ما إلى واحد منها، تجد نفسها محاصرة بجيش من المتشدّدين الذين يحاولون بطرق شتى ترهيبها ومنعها من الإجهاض. وفي هذا الإطار، يشير تقرير لمركز إيكوتي فوروورد، وهو مركز بحثي مستقل حول حقوق الإنسان والحقوق الإنجابية في الولايات المتحدة الأميركية، إلى أنّ عدد مراكز مكافحة الإجهاض في البلاد صار يفوق عدد تلك التي تقدّم خدمات إنجابية أو استشارية مستقلة وكذلك عدد عيادات الإجهاض التي أُجبرت بشكل منهجي على الإغلاق في ولايات كثيرة بعد التضييق عليها وعلى العاملين فيها وتقليص مواردها. وبحسب تقرير المركز نفسه، فإنّ ثمّة أكثر من 2500 مركز لمكافحة الإجهاض في الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعني ثلاثة مركز في مقابل مركز واحد لتقديم خدمات الإجهاض.
ولزيادة الطين بلّة، بدأ مشرّعون في عدد من الولايات الأميركية العمل على تشريعات تذهب إلى أبعد من تجريم الإجهاض أو تحريمه في تلك الولايات، إذ يستهدفون النساء اللواتي يقصدنَ ولايات أخرى تسمح بالإجهاض، مثل نيويورك، للخضوع بشكل قانوني لإجهاض عملياً، أو اللواتي يطلبن أدوية لإنجاز الإجهاض في المنزل. وفي هذا السياق، بدأ مشرّعون في ولاية ميسوري، في مطلع العام الحالي، بالعمل على قانون يسمح لأيّ فرد، حتى لو لم تكن تربطه أيّ علاقة بالمرأة التي تسعى إلى إنهاء حملها، بمقاضاة أيّ شخص آخر يساعدها على عبور حدود الولاية للحصول على خدمات الإجهاض في ولاية أخرى. وحالياً، أوقف الاقتراح التشريعي في البرلمان، لكنّه من المتوقع أن يستعيد زخمه في حال أسقطت المحكمة الدستورية الحقّ الدستوري للنساء الأميركيات في الإجهاض.
قضية متشعبة
ويلفت خبراء إلى جانب ناشطين وناشطات في هذا المجال ونسويات إلى أنّ قضايا الرعاية الصحية وجودتها في الولايات المتحدة الأميركية لا ترتبط فقط بالأمور الجندرية بل كذلك بالخلفيات الإثنية والطبقية. ويشرح هؤلاء أنّ النساء من الطبقات المتوسطة أو الميسورة سوف يتمكنّ من سدّ نفقات تلك العمليات والخدمات والتنقل بسرعة وحرية إلى ولايات تسمح بالإجهاض، في حين أنّ النساء من الطبقات الفقيرة سوف يعانينَ الأمرَّين للحصول على تلك الخدمات.
لكنّ المعركة حول تقييد حرية النساء المتعلقة باتّخاذ القرارات الملائمة لهنّ في ما يخصّ أجسادهنّ، لا تنحصر بالإجهاض، بل تشمل كذلك وسائل منع الحمل، إذ تحاول المجموعات المتشدّدة ممارسة ضغوط وفرض ممارسات وقوانين تجبر شركات التأمين على وقف دعمها بشكل كامل أو جزئي لتلك الوسائل. ويتخطّى الأمر الحدود الأميركية، إذ إنّه منذ عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان (تولى الرئاسة ما بين 1981 و1989) تتأثّر بالأمر المساعدات الخارجية التي تقدّمها واشنطن، بما في ذلك على سبيل المثال مساعداتها لصندوق الأمم المتحدة للسكان الذي يشمل برامج الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة والصحة الجنسية.
وقد دأبت الحكومات الأميركية المحافظة مذ ذاك الحين على وقف دعمها للصندوق، آخرها حكومة ترامب في عام 2017، علماً أنّ حكومات الديمقراطيين تعمد إلى إعادة الدعم في كلّ مرّة. وفي حال ألغت المحكمة الدستورية قرارها الذي يكفل الحقّ الدستوري في الإجهاض، فإنّ من غير الواضح ما سوف تؤول إليه الأمور خارجياً.
وفي تعليق على التسريب، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنّ صدور قرار المحكمة بإلغاء الحقّ في الإجهاض قد يفتح الأبواب على تغييرات لأحكام متعلقة بمجموعة كاملة من القضايا، ويضعها على المحكّ. وعلى الرغم من أنّ تصريحات بايدن جاءت في السياق الداخلي، فإنّ صداها في الخارج واضح.
في سياق متصل، ورداً على سؤال حول الموضوع، رفض نائب المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، التعليق على التسريبات بشكل مباشر، لكنّه لفت إلى أنّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس "أبدى مراراً قلقاً إزاء حدوث تراجع عالمي في ما يتعلق بحقوق المرأة، بما في ذلك الحقوق الإنجابية والخدمات الصحية الأساسية".