مع كل طلقة رصاص على المدن الأوكرانية، تزداد مخاوف السكان المدنيين من إمكان استهدافهم، ويؤثر القلق من القصف المستمر، والعيش في حال من عدم اليقين ووسط مشاهد الدمار، سلباً على صحتهم العقلية. وفيما تمتد موجات القلق والخوف إلى أوروبا، يحذر خبراء الصحة العقلية من أن المشاركة العامة بأحداث أوكرانيا ذات كلفة باهظة لا يمكن تجاهلها. وبالنسبة إلى كثر منهم تختلف تأثيرات فيروس كورونا على الصحة النفسية عن تلك للحرب الأوكرانية، "لأن أسباب الحرب الأوكرانية واضحة، أما أسباب تفشي فيروس كورونا فلا تزال مجهولة".
ولا يصب ذلك في إطار محاولة الخبراء التقليل من أهمية الغضب والقلق الناتجين من الحرب الأوكرانية، لكنهم يسعون إلى إبراز أهمية دور إدارة القلق من أجل فهم نتائجه الصحية والنفسية.
يصف أستاذ علم النفس الإكلينيكي في جامعة أكسفورد البريطانية بول سالكوفسكيس الذي كان عمل لوضع تدابير لمساعدة الأشخاص في التعامل مع القلق المرتبط بفيروس كورونا، في حديثه لصحيفة" ذي غارديان" البريطانية، الوضع الجديد بأنه "صعب جداً، فنسبة القلق مما يجري قد تزيد تأزم الصحة العقلية للإفراد، وستخلق تأثيرات طويلة الأمد كما حصل تماماً خلال أزمة فيروس كورونا". وهو لم يخفِ تخوفه من أن تشهد عيادات الطب النفسي ضغطاً في المستقبل القريب بسبب ما يحصل في أوروبا.
تخيّل الأسوأ
تعرّف هيئة الصحة البريطانية القلق بأنه "شعور بالخوف والرهبة وعدم الارتياح"، فيما تفسره النظرية المعرفية بأنه "ميل إلى المبالغة في تقدير احتمالات الخطر، باعتبار أن مرضى اضطراب القلق يميلون إلى تخيل أسوأ سيناريو يمكن حدوثه، وتجنب المواقف التي يعتقدون بأنها خطيرة، مثل الازدحام أو المرتفعات أو التفاعل الاجتماعي".
وتبدو هذه التعريفات عامة جداً لأنها لا توفر إجابات للأسباب الأساسية التي تجعل بعض الأشخاص قلقين بنسبة أكبر من غيرهم، أما سالكوفسكيس فيعزو أسباب اختلاف درجات الخوف بين الأشخاص إلى "حال عدم اليقين لدى كل فرد والرغبة في فهم طبيعة التهديد واحتمال حدوثه، إضافة إلى تساؤلات عن العواقب والتأثيرات".
وفي مقارنته بين تأثيرات الوضع الوبائي وتلك المرتبطة بالحرب الأوكرانية، يرى سالكوفسكيس أن المسافة الاجتماعية تصعّب دعم الناس بعضهم بعضاً في شكل قوي، من هنا يمكن ألا يتأثر بعض الأشخاص بالحرب الأوكرانية بالدرجة ذاتها خلال وباء كورونا، لأن الأشخاص يستطيعون إدارة القلق لديهم المرتبط بأحداث أوكرانيا من خلال عدم متابعة ما يحدث في أوكرانيا بالكامل من تخفيف الآثار النفسية عليهم".
كورونا أكثر تأثيراً
وترى الطبيبة النفسية الدكتورة سيلين أبي راشد في حديثها لـ"العربي الجديد" أن "إدارة القلق لدى الأفراد ليست عملية سهلة، خاصة إذا كان الأفراد يعانون أصلاً من ارتفاع في مستويات القلق والخوف نتيجة عادات سلوكية اكتسبوها مع مرور الوقت، من هنا تتباين السيطرة على القلق بين شخص وآخر". تضيف: "تختلف قدرات الفرد في إدارة القلق، وكيفية التحكم بالمشاعر. قد يبتعد البعض عن أي توترات تحيط بهم سواء عبر الامتناع عن متابعة الأخبار المؤذية، أو رؤية بعض الأشخاص السلبيين، لكن هذه التصرفات ليست في متناول الجميع، لأن بعضهم يعانون أصلاً مما يطلق عليه اسم رهاب القلق، أي يعيشون في قلق مستمر من أي أمر قد يحدث. وننصح كل من يعانون من رهاب القلق بضرورة زيارة طبيب نفسي لمساعدتهم ودعمهم".
دولياً، أثارت الحرب الأوكرانية تعاطفاً كبيراً لدى شعوب كثيرة، "لكن هذا التعاطف ظل مقتصراً على وسائل التواصل الاجتماعي، ما حدّ من نسبة القلق لدى متابعي الأخبار"، بحسب ما يؤكده عالم الأعصاب والباحث الفخري في جامعة كارديف في ويلز، دين بورنيت، الذي يعتبر أيضاً أن "القدرة على إدارة القلق قد تكون إحدى الاختلافات الواضحة بين تأثيرات الحرب الأوكرانية ووباء فيروس كورونا".
يتابع: "بالنسبة إلى معظم الناس فهم يرون أن الهجوم الروسي استهدف مستضعفين في أوكرانيا لأسباب أكثر وضوحاً من الوباء، ما يجعل فهم البشر هذا الواقع أكثر سهولة، ويحد من نسبة القلق لديهم، لكن الوضع كان أصعب بكثير بالنسبة إلى فيروس كورونا، لأن أحداً لم يستطع إدارة القلق والتنبؤ بما سيحدث، كما أن لا أحد يعلم أسباب انتشار الوباء".
وترى البروفيسورة باربرا ساهاكيان، من قسم الطب النفسي في جامعة كامبريدج البريطانية، أن العديد من الأشخاص كانوا يتعاملون مع الإجهاد المزمن منذ بدء عمليات الإغلاق، والتهديدات المرتبطة بتأثير الفيروس على حياتهم الصحية والاقتصادية وحتى البيئية. وتقول: "صحيح أن الحرب الأوكرانية تهدد الأمن الأوروبي وحتى العالمي، لكن نتائج هذا التهديد ليست متساوية لدى جميع الأشخاص، ما يجعل تأثيرات وباء فيروس كورونا أكثر حدّة من أي أزمة أخرى".
وقائع مختلفة
وعلى أرض الواقع قد تختلف النتائج، إذ يعيش أشخاص كُثر أزمة نفسية بسبب الحرب الأوكرانية، والتي قد تكون وطأتها حتى أكثر شدة من أزمة فيروس كورونا. وتقول جولييت لانداو بوب التي كانت تتعافى من الإصابة بفيروس كورونا وتطلعت إلى الخروج مرة أخرى بعد فترة الإغلاق، قبل أن تفقد حالياً الرغبة في الاختلاط: كنت أتلقى الأخبار على مدار الساعة. وأستيقظ ليلاً كي أتفحص هاتفي وأقرأ تقارير الصحف وأراقب نشرات الأخبار. كنت أبحث عن شهادات شخصية لمحاولة العثور على مصادر مختلفة للمعلومات التي ارتأيت في نهاية المطاف أنها لا توفر خيارات مناسبة بالنسبة لي لتغيير موقفي من ملازمة المنزل".
لا يختلف الأمر بالنسبة إلى سلوك مؤلفة الإعلانات كاي ووربويز التي أصبحت قلقة للغاية من هوسها بالحقائق الخاصة بفيروس كورونا لدرجة أنها بدأت في التدرب للعمل كمستشارة صحية. وتقول: "شعرت مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا أنني وقعت في الفخ نفسه الذي كنت فيه خلال ربيع عام 2020، ففي الأيام الأولى لفيروس كورونا، كنت أراقب الأخبار بدقة، وأبحث عن كل الحقائق والأرقام، وهو ما حصل لي تماماً بعد اندلاع هذه الحرب بعدما تسللت العادات القديمة إلي مجدداً". وأصبحت ووردبويز منهكة وقلقة وغاضبة ومستاءة، لا سيما من خلال متابعتها لصور الدمار.
وتحاول آنا كارجان التي تدير موقعاً إلكترونياً لملابس الأطفال المستعملة "عدم المشاركة في الحرب"، إذ عانت من اضطراب القلق في الماضي، ولا تريد أن تكرر الفكرة ذاتها.
ويتضح من خلال هذه الأمثلة أن نتائج إدارة القلق والقدرة على التحكم بالكثير من الأحداث قد تختلف على الصحة النفسية والجسدية.
وتوافق أبي راشد على أن "إدارة القلق قد تساعد في تحسين الصحة النفسية للأفراد شرط أن يعوا جيداً كيفية حماية أنفسهم من مصادر القلق، وتنصح في هذا الإطار الأفراد الذين يعانون من القلق بضرورة ممارسة الرياضة بانتظام لأنها تساعدهم في تهدئة أعصابهم، وتناول أطعمة غذائية صحية تحتوي على فيتامينات، لأن أمراضا نفسية كثيرة مرتبطة بالقلق قد تزداد خطورتها أو حدتها بسبب تناول أطعمة ضارّة".
وعموماً، تشير دراسة أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أنّ الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحروب تنتشر في شكل أكبر من المتعارف عليه. وتوضح أن نسبة 6.6 في المائة من الأشخاص يعانون من أعراض نفسية في الظروف العادية، أما في ظروف الحروب والنزاعات فتزيد هذه النسبة إلى 20 في المائة. وتؤكّد الدراسة أيضاً أن الأطفال يتأثرون بالحروب في شكل خطير، مشيرة إلى أن الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة هي الأكثر شيوعاً لدى الأطفال في الحروب.
وتشدد المنظمة على أن "إهمال الآثار النفسية للحروب وضحاياها له أثر عميق وطويل المدى على الأشخاص وعائلاتهم والعالم عموماً، وأن مرحلة ما بعد انتهاء الحرب قد تجلب أحمالاً أثقل من الأسلحة على الناس تترك آثاراً خفية ومؤلمة في نفوسهم، علماً أن الآثار النفسية التي يعيشها الأشخاص خلال الحروب ليست ضعفاً أو عيباً، ومن المهم طلب مساعدة واستشارة نفسية في شأنها".