على الرغم من كل الرغبات السياسية بجعل إقامة اللاجئين من سورية في الدنمارك مؤقتة، ومن خلال السياسة المنتهجة بتحويل بعض المناطق السورية إلى "آمنة" بقصد ترحيلهم إليها، يبدو أن العاصمة الدنماركية كوبنهاغن باتت تواجه مصاعب كبيرة في إعادة هؤلاء إلى ديارهم.
ووفقاً للأرقام الجديدة منذ بداية العام الحالي 2023 للذين صنفتهم الدنمارك على أنهم قادمون من مناطق "آمنة"، كدمشق وريفها، وسحب إقامات بعضهم وإحالتهم على مراكز تسفير، فإن سلطات الهجرة لم تستطع تجميد سوى 5 إقامات، على عكس مئات القضايا منذ تطبيق سياسة الحماية المؤقتة لهؤلاء في 2021.
تطبيق تلك الممارسة يستند إلى قانون جرى تبنيه في 2015، ويتيح سحب تراخيص الإقامة للاجئين بصفة مؤقتة، وهو ما شمل نحو 4700 من القادمين من العاصمة السورية دمشق وريفها (من بين نحو 30 ألفاً من سورية).
من جهتها، واجهت الدنمارك في السنوات الثلاث الماضية معركة أخلاقية داخلية، وانتقادات أوروبية ودولية خارجية في ما يتعلق بتعاطيها مع اللاجئين السوريين، إذ تحول الأمر إلى معارك سياسية ومعارضة أحزاب برلمانية، ترى أن تطبيق تجميد رخص الإقامة يعتبر "بلا رحمة"، كما هو الحال في صفوف أحزاب اليسار وحزب راديكال فينسترا، يسار وسط.
تصر حكومة الائتلاف الحاكم على التمسك بقانون 2015 حول الإقامة المؤقتة، وهو ما يؤجل لسنوات طويلة الحصول على الجنسية الدنماركية
وكانت حكومة رئيسة وزراء يسار الوسط (الاجتماعي الديمقراطي) ميتا فريدركسن، حتى سبتمبر/ أيلول العام الماضي تشدد على تطبيق سحب الإقامات عن السوريين من دمشق وريفها، حيث أصرّ وزير الهجرة السابق، ماتياس تيسفايا، على تحويل الآلاف منهم دون إقامة.
ويبدو أن تشكيل حكومة ائتلافية، بين يسار ويمين الوسط (خصوصاً حزب مورادرات برئاسة رئيس الحكومة السابق لارس لوكا راسموسن، الأكثر اعتدالاً من بقية معسكر يمين الوسط) حول الأشهر الأخيرة من العام الحالي 2023 إلى ما يشبه تجميد تطبيق سحب الإقامة، ما يجعل محاولات توسيع مفهوم "المناطق الآمنة" في سورية، لتشمل اللاذقية وطرطوس، خارج التفكير.
ومقارنة بالسنوات الماضية، تبدو الأمور أكثر وضوحاً. ففي 2021 فقد 2700 من السوريين تصاريح الإقامة، بينما في العام الماضي انخفض الرقم إلى 61 حالة، وحتى مارس/ آذار الماضي لم تجمد سوى إقامة 5 أشخاص. بينما قضايا عشرات اللاجئين الآن معروضة أمام الاستئناف، وفقاً لدائرة الهجرة و"مجلس اللجوء" المعنيّ بالبت في القضايا، وقد منح المجلس خلال الأشهر الأخيرة، وبشكل متزايد، السوريين المهددين بالترحيل حق البقاء في البلد.
عملياً، لم تستطع كوبنهاغن ترحيل أي سوري، رغم الإصرار على اعتبار من سُحبَت رخصة إقامته على قوائم التسفير. وذلك يعني برأي أستاذ قانون الهجرة في جامعة آرهوس (وسط غرب) بيتر ستاروب، في تصريحات صحافية، اليوم الأربعاء، أن عدم القدرة على تطبيق قرار الترحيل يفرض بقاء السوريين في الدنمارك كأمر واقع.
ورغم ذلك، تصر حكومة الائتلاف الحاكم على التمسك بقانون 2015 حول الإقامة المؤقتة، وهو ما يؤجل لسنوات طويلة جداً مجرد التفكير بطلب الجنسية الدنماركية بعد مرور 9 سنوات على قدوم البعض لاجئين من سورية. إذ تقتضي قوانين الجنسية احتساب الإقامة "الدائمة" قبيل التقدم بطلب جنسية، وإضافة إلى ذلك سنوات عمل، يضطر من تُجمَّد رخصة إقامته إلى ترك مكان عمله، بفعل أنه يتحول إلى "مقيم بصفة غير قانونية".
رسميا تتمسك الحكومة الدنماركية بقانون "تحسن الأوضاع الأمنية" في دول المنشأ، لتبرير اللجوء المؤقت وسحب الإقامة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة قدرتها على تطبيقه
رسمياً تتمسك الحكومة الدنماركية بقانون "تحسن الأوضاع الأمنية" في دول المنشأ، لتبرير اللجوء المؤقت وسحب الإقامة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة القدرة على تطبيقه على أرض الواقع. ويعتبر ذلك "خبراً ساراً للمقيمين السوريين في البلد"، كما يذهب بعض داعميهم ومتخصصون حقوقيون في كوبنهاغن.
فمن ناحيتها، تعتبر أستاذة قانون الهجرة في جامعة آرهوس، لويزا هالسكوف ستورغورد، أن تراجع أعداد من تُسحَب إقامتهم من السوريين "أمر طبيعي جداً في سياق يتعلق بأوضاعهم في الدنمارك"، موضحة لصحيفة "بيرلنغسكا"، اليوم الأربعاء، بالقول إنّ "الكثيرين منهم يتعلمون ولديهم أطفال يرتادون المدارس منذ خمس أو ست وسبع سنوات، وبعد ذلك لا يمكنك إلغاء تصاريح إقامتهم مع مرور المزيد من الوقت على وجودهم في الدنمارك".
ومن جهتها تؤكد دائرة الهجرة الدنماركية أنه توجد أسباب لتراجع أعداد الذين يفقدون إقامتهم في الدنمارك. وتبرر الدائرة أن "انشغال الموظفين بمهام عاجلة تتعلق بلاجئي أوكرانيا، أجّل قرارات خفض أعداد السوريين الذين جُمدت إقاماتهم".
واعتبرت الدائرة أن مجلس اللجوء الدنماركي (هيئة مشكلة من موظفين وقضاة تدرس طلبات اللجوء) ألغى عدداً من القرارات المتخذة في دائرة الهجرة بشأن السوريين، وأسس ذلك لممارسة واضحة تلتزم مرة أخرى المعايير الدولية، بما في ذلك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) والمبدأ التحوطي (بشأن مستقبل اللاجئ إذا رُحل). وكانت الانتقادات الحقوقية الدولية والأوروبية تتكرر بشأن ضرورة التزام كوبنهاغن تلك الاتفاقيات والمعايير الأوروبية للجوء.
إجمالاً، من الواضح أن الأمور تسير عكس رغبات بعض أحزاب اليمين المتشدد التي ساهمت بتبني قانون اللجوء المؤقت للسوريين، ويبدو أن موجات لجوء الأوكرانيين منذ مارس/ آذار العام الماضي، وتحول مجلس اللجوء عن سياساته التي كانت تسهل سحب الإقامة من قبل دائرة الهجرة، يعني وفقاً لأساتذة قانون الهجرة "صعوبة تطبيق سحب الإقامة المؤقتة"، كما أكدت الخبيرة في قانون الهجرة، ستوغورد.
ومن الأرقام التي تخص العام الحالي وتصريحات دائرة الهجرة، يبدو جلياً أن الأمور لن تكون سيئة لآلاف السوريين الذين كانوا يخشون تصنيف الدنمارك لمناطقهم التي جاؤوا منها على أنها "آمنة"، وما كان سيستلزم ذلك من سحب للجوئهم.