بينما توجه جامعات فرنسا طلابها إلى التدريب في مجالات اختصاصهم في الشركات الخاصة، يستغلهم أرباب العمل بمنحهم أجوراً متدنية من دون أن توفر لهم فرصة التدريب هذه أيّ حقوق
كبقيّة زملائها، تحضر هيلين عند التاسعة صباحاً إلى مكتبها في شركة إنتاج موسيقية تقع شرق العاصمة الفرنسية باريس، وتغادره، مثلهم، عند الخامسة عصراً. تعمل، مثل الجميع، خمسة أيام في الأسبوع، وتقوم بالمهام اليومية نفسها، تقريباً، التي يقوم بها زميلاها في قسم العلاقات العامة. لكن، في نهاية الشهر، تحصل الشابة (24 عاماً) على أقل من 700 يورو كراتب، فيما يتجاوز راتب كلّ واحد من زميليها في القسم 2000 يورو. يعود هذا الفارق الكبير إلى أنّ هيلين تحمل صفة "متدرّبة" فيما يستفيد زميلاها، وبقية الموظفين، من عقود عمل تقليدية. تعلّق: على الرغم من غياب الإنصاف، لا يمكنني أن أعتبر نفسي سيئة حظّ. أمضيت شهوراً في البحث عن فرصة للتدريب، قبل أن أُقبَل هنا. لديّ زملاء، في دفعتي الدراسية، لم يعثروا على مكان للتدرّب، ولا أدري كيف سيحصلون على شهادة الماجستير من دون ذلك، لأن التدرّب خلال عدّة أشهر من السنة الدراسية أمرٌ إجباري لنيل ماجستير الاتصالات الذي نحضّره".
وتشكل جامعة "ليل" (شمال)، التي درست فيها هيلين قبل الانتقال إلى باريس لأداء تدريبها، جزءاً من مشهد فرنسيّ أوسع تتزايد فيه، عاماً بعد آخر، أعداد الجامعات والمدارس العليا التي تفرض على طلابها (أو تنصحهم) التدريب. ولا يقتصر الأمر على طلاب السنة الأخيرة من الماجستير أو من الإجازة، فحسب، بل يشمل طلاباً حديثي العهد بالجامعة، كما هي حال هيلين التي قامت، خلال خمس سنوات دراسية، بأربع فترات تدريبية.
في حديث إلى "العربي الجديد" تعيد عالمة الاجتماع المختصة بعلم اجتماع العمل، دانييل لينارت، هذه الطفرة إلى سببين: "ثمة، أولاً، رغبة لدى الطلاب في تحويل معرفتهم النظرية، المكتسبة خلال دراستهم، إلى خبرة عملية. بهذا المعنى، يشكّل التدريب مرحلة انتقالية بين عالم الدراسة وعالم العمل. ومن ناحية أخرى، يتيح التدريب لأرباب العمل إمكانية الحصول على يد عاملة رخيصة، بل رخيصة جداً، تقوم بعملها بتفانٍ وفعالية، وتساعدهم في الوصول إلى أهدافهم الاقتصادية". تضيف لينارت أنّه يمكن قراءة الظاهرة كتبنٍّ متزايد، من قِبَل النظام التعليمي الفرنسي، لمفهوم التمهّن، الشائع في بلد مثل ألمانيا، الذي يقوم على المزاوجة بين الدراسة النظرية وتطبيقها العملي.
لا أرقام رسمية للمتدربين بين الشباب في فرنسا، لكنّ جهات مدنية ومواقع مختصة بالعمل تقدّر عددهم بأكثر من مليون و600 ألف. وبحسب هذه المصادر نفسها، فإنّ عددهم ازداد منذ عام 2008، إذ كان يُقَدّر حينها بنحو 800 ألف. وربما كان هذا النمو المتزايد السبب الذي يدفع السلطات الفرنسية، في السنوات الأخيرة، إلى إصدار العديد من التشريعات لتأطير وضعهم قانونياً، مثل وضع سقف لعدد المتدربين في الشركة الواحدة، أو تحديد التعويض الأدنى لساعة العمل الواحدة التي يقومون بها بـ3 يورو و90 سنتاً. لكنّ هذه التشريعات ما زالت بعيدة عن "الإنصاف" الذي يطالب به المتدربون، بل هي بعيدة عن مطالب البرلمان الأوروبي، الذي دعا، خلال جلسة عقدها في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى تثمين عمل الشباب، ومنهم المتدربون، وإلى منحهم مقابلاً مادياً "عادلاً".
ويرى العديد من الباحثين والمتدربين الفرنسيين أنّ هناك هوةً واسعة بين النحو الذي تنظر فيه الحكومة إلى واقع المتدربين، وبين واقعهم الفعلي. يقول أورليان، وهو متخرج حديثاً من معهد الديموغرافيا في جامعة باريس الأولى، ومتدرّب سابق، إنّه ليس من مثال أفضل على هذه الهوّة من القاموس الذي تستخدمه الحكومة للحديث عن المقابل المادي الذي يتلقاه المتدربون: "تتحدث الحكومة عن إكرامية، بدلاً من الحديث عن تعويض أو راتب. ينطوي هذا على قدر كبير من الازدراء. أغلب المتدربين الذين قابلتهم يقومون بعمل هو في الواقع عمل موظّف، أي إنّ الشركات والمؤسسات تستخدمهم بدلاً من أن تدفع راتب وظيفة كاملة وفق عقد عمل. لا يمكن مَن يستفيد منك ويستغلك أن يتكرّم عليك".
واقع الاستغلال هذا، الذي يشير إليه أورليان، حاضرٌ على لسان كثير من الشباب الفرنسيين الذين عرفوا تجربة التدريب، بل يعترف به البرلمان الأوروبي، الذي أدانت غالبية كبرى من أعضائه، خلال الجلسة المذكورة "استغلال عمل الشباب وانتهاك حقوقهم". ولا يتمثل هذا الاستغلال، في فرنسا، بـ"التكرّم" على المتدربين بمبالغ زهيدة لا تُقارن بمجهودهم، فحسب، بل يمتد إلى إعفاء القانون الفرنسي أرباب العمل من دفع أي مقابل للمتدرب ما دامت فترة التدريب لا تزيد على شهرين، وهو ما يدفع كثيرين منهم إلى حصر مدة التدريب في شركاتهم بفترة تقل عن شهرين بيوم واحد أحياناً. وترى دانييل لينارت، وهي أيضاً مديرة أبحاث في "المركز الوطني للبحث العلمي" أنّ الاستغلال يبدأ بجعل الطلاب يتدافعون على فرص التدريب بالرغم من معرفتهم المسبقة بالشروط الصعبة وغير المنصفة التي سيمارسون تدريبهم فيها. تتابع: "في ظلّ غياب خيار العمل الكريم والمستقرّ أمام كثير من الشباب، يصبح التدريب واحداً من الطرق القليلة التي يمكنهم من خلالها وضع قدم في سوق العمل، على أمل وضع القدم الأخرى مع انتهاء تدريبهم. في حالة التمهّن هذه، يجد المتدرّب نفسَه في موقع الخاضع لهيمنة صاحب العمل، ولا يستطيع مناقشة شروط عمله أو الاعتراض أو ممارسة نشاط نقابي مثلاً، على العكس من الموظفين، الذين تحميهم عقودهم وحقوقهم القانونية".