كان على المزارع الفلسطيني محسن أبو حمد (55 سنة)، الذي يقطن إحدى الخرب النائية في الأغوار الشمالية الفلسطينية في الضفة الغربية، أن يدفع مبلغ 1500 دولار أميركي حتى يتسنى له استرداد جراره الزراعي الذي أقدم ما يسمى "مجلس المستوطنات"، بدعم من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، على مصادرته قبل نحو شهر، بحجة أنه كان يستخدمه لحراثة أرضه التي صنفها الاحتلال دون علمه أنها "محميات طبيعية"، وكلف مسؤول أمن المستوطنات في الأغوار بمراقبتها.
القصة بدأت عندما شرع أبو حمد بحراثة أرضه قبل نزول المطر، تمهيداً للبدء بالزراعات الشتوية، وهذا ما دأب عليه منذ عقود طويلة، ليفاجأ بقوة من جيش الاحتلال، ومعها سيارة دفع رباعي يقودها مسؤول أمن المستوطنة القريبة، تجبره على التوقف وتعتدي عليه بالضرب، قبل أن يبلغه الضابط بقرار مصادرة الجرار الزراعي. ومن أجل استرداده، عليه مراجعة "المجلس الإقليمي لمستوطنات غور الأردن".
يقول أبو حمد لـ"العربي الجديد": "كانوا شديدي الفظاظة في التعامل معي، وتوقعت أن يقوم المستوطن المسلح بإطلاق الرصاص عليّ وقتلي. للأسف، قد يبرر ذلك بأنه تعرض لخطر، وسيدعم الجنود هذه الرواية، ففضلت الجدال البسيط معهم حتى أنجو بنفسي. اليوم، أسهل شيء هو قتل الفلسطيني وما يجري في غزة أكبر دليل".
ذهب الرجل الخمسيني إلى المجلس الاستيطاني، وكان يحمل ورقة أعطاه إياها مسؤول أمن المستوطنة مكتوبة باللغة العبرية، وفيها تبرير لاحتجاز الجرار بأنه كان يحرث أرضاً مصنفة أنها "محمية طبيعية". يقول أبو حمد: "هذه أرضي وأرض آبائي وأجدادي، وأنا أزرعها منذ عقود طويلة، لكننا منذ إقامة المستوطنة على تلة قريبة منها بتنا نعاني الأمرين، وعندما فشلوا في إجبارنا على الرحيل، لجأوا إلى مثل هذه الحيل الخبيثة". المزارع محروس بني عودة من خربة عاطوف شرق بلدة طمون في الأغوار الشمالية، كان قد تعرض لموقف غريب عندما علم صدفة أن الشاحنة التي تحمل صهريج الماء والتي صادرتها سلطات الاحتلال منه الصيف الماضي، بذريعة وجودها في منطقة عسكرية مغلقة، قد بيعت بالمزاد العلني على موقع يعود للمستوطنين بأقل من نصف سعرها الحقيقي. ويوضح بني عودة لـ"العربي الجديد" أن المتحكم اليوم بالأغوار هم المستوطنون، وهؤلاء يشكلون فرقاً لملاحقة الوجود الفلسطيني فيها. ويقول: "هم طبعاً مدعومون من حكومتهم أولاً، ومن جيشهم ثانياً، وباتت لديهم صلاحيات واسعة للتحرك وفرض سيطرتهم على أية منطقة يريدونها".
يتحكم المستوطنون بالأغوار ويشكلون فرقاً لملاحقة الوجود الفلسطيني فيها
ويؤكد بني عودة أنه "لا يوجد ماء في الأغوار بعدما طمروا كل أعين الماء التي كنا نشرب منها ونسقي الزرع والمواشي، لكننا لم ولن نستسلم لهم، فعكفنا على شراء الماء من المدن القريبة ونقلها إلى القرى والخرب الغورية، غير أنهم مؤخراً باتوا يلاحقوننا بوسائل كثيرة. فتارة يحرقون الشاحنات أو يعطبونها، وتارة يحتجزوننا لساعات طويلة على الحواجز العسكرية. ومؤخراً، عملوا على احتجاز ومصادرة تلك الشاحنات والصهاريج بحجة أنها لا تحمل تصريحاً بنقل المياه وأنها فقط لنقل الخضار أو الأغنام". وفي كل مرة يحتجز الاحتلال شاحنة بني عودة، كان يدفع غرامة لاستعادتها، غير أنهم في المرة الأخيرة رفضوا تسليمه ورقة تثبت مصادرتها، ليفاجأ أنهم كانوا يخططون لسرقتها وبيعها للمستوطنين بالمزاد وهو ما كان.
يشير الباحث في شؤون الأغوار فارس فقها إلى أن بيع المعدات الزراعية التي يستولي عليها الاحتلال سياسة قديمة ينتهجها عند عدم قدرة المواطنين على دفع الغرامات المالية الباهظة التي تُفرض عليهم لاستعادتها، خصوصاً مع تكرار الأمر. ويلفت فقها في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن مزارعاً قد دفع ما قيمته عشرة أضعاف ثمن جراره الزراعي، بعد تكرار عملية احتجازه. وفي النهاية، اضطر للاستدانة لإعادته. ومع هذا، فقد صادروه مجدداً وعرضوه للبيع بالمزاد العلني.
يقول فقها إن "الخطة واضحة لا تحتاج إلى تأويل. فالاحتلال يريد أن يجعل من الأغوار بيئة طاردة للوجود الفلسطيني، واستخدم في سبيل ذلك عشرات الطرق ووظف القوانين والقوة والسلاح والجيش والمستوطنين. وفي المحصلة، فإن البدوي أو الراعي أو المزارع الفلسطيني يقاتل وحده دولة بأكملها".
ويوضح فقها أن الفلسطينيين في الأغوار باتوا مرهقين مادياً بشكل كبير. فسلاح الغرامات كان قاتلاً بالنسبة إليهم، ولا حل معه حتى لو وكلوا محامياً لمتابعته. فهو قرار مدروس بعناية من المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية بتنسيق كامل مع المستوطنين. يقول فقها إن "العائلات البدوية تخوض معركة كسر عظم مع الاحتلال الذي يتفنن في تضييق الخناق عليها، ويلاحقها حتى في مساكنها البدائية، وقد تراجع عددها خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير جراء ما تعرضت له مساكنها من عمليات هدم وتجريف ومصادرة من الاحتلال. وعندما قاومت ذلك، عمل الاحتلال على محاربتها في لقمة عيشها من خلال مصادرة المعدات الزراعية وتغريمها مبالغ طائلة لاستعادتها". ويحذّر فقها من أن سياسة مصادرة الجرارات وصهاريج المياه وجهت ضربة قاسية للزراعة في الأغوار، بعدما كان قد ضرب الثروة الحيوانية من خلال مصادرة قطعان الأبقار والأغنام وعدم تركها إلا بعد دفع أصحابها مبالغ فلكية.
بيع المعدات الزراعية التي يستولي عليها الاحتلال سياسة قديمة متواصلة
يقول المتخصص في متابعة ملف الاستيطان في الأغوار عارف دراغمة إنه "في الوقت الذي يمنع الاحتلال المواطنين من زراعة أراضيهم، أو إحضار المياه لسقي المواشي والشرب، يتوسع المستوطنون في مختلف أراضي الأغوار بصورة غير مسبوقة. ومؤخراً، جدد الاحتلال وضع اليد على أكثر من 90 دونماً من أراضي البقيعة التي تعد الأكثر خصوبة".
ويضيف دراغمة: "فوق كل هذا، يلجأ الاحتلال إلى إيقاع الخسائر المادية بهم والتي لا طاقة لهم على تحملها، ومنها مصادرة الجرارات الزراعية وصهاريج المياه والشاحنات وغيرها، لأنها تمثل شريان حياة للمزارع في الأغوار، خصوصاً في ظل عدم سماح قوات الاحتلال بتعبيد الطرق وإقامة مشاريع البنى التحتية، فتصبح الجرارات الزراعية وسيلة للتنقل في دروب لا تصل إليها المركبات، عدا عن حراثة الأرض، ونقل صهاريج المياه".
ولا يملك دراغمة إحصائية دقيقة لما صودر. ويقول: "باتت هذه حوادث يومية وبالجملة أيضاً. في بعض المناطق، احتجزوا سبعة جرارات معاً. وفي مرة أخرى، صادروا كل صهاريج المياه في الجفتلك والعين البيضا وسهل سميط، ورأيناهم وهم ينقلونها إلى المعسكر التابع لجيش الاحتلال قرب مستوطنة ميحولا المقامة على أراضي الفلسطينيين". ويستدرك: "يصعب من الناحية العملية حصر حالات مصادرة المعدات الزراعية لأنها مستمرة ومتواصلة في مناطق مختلفة، كما أن المبالغ التي يدفعها المزارعون على شكل غرامات ضخمة جداً، ويستفيد منها الاحتلال في دعم الوجود الاستيطاني له في الأغوار".
أشار مركز القدس للمساعدة القانونية، في تقرير، إلى أن مجلس مستوطنات غور الأردن كان قد أصدر للمرة الأولى، في إبريل/ نيسان 2021، إخطارات تنص على إزالة منشآت فلسطينية تجارية في قرى كردلة وبردلة والعين البيضا التابعة لمحافظة طوباس، بذريعة أن هذه المنشآت الفلسطينية أو "النشاط التجاري"، بحسب ما جاء في الإخطارات الإسرائيلية، ليست لديها ترخيص بموجب قانون ترخيص الأعمال الإسرائيلي الصادر عام 1968، وأنه يتعين على المزارعين الفلسطينيين التقدم فوراً للحصول على رخصة تجارية للسماح لهم بممارسة أعمالهم في المنطقة.
واستهدفت الإخطارات الصادرة سبع بسطات تجارية لبيع الخضار أقيمت بمحاذاة الشارع الالتفافي الإسرائيلي رقم 90. وتجدر الإشارة إلى أن "قانون ترخيص الأعمال 1968" شهد عدة تعديلات منذ صدوره وحتى يومنا بما يتناسب والمطامع الاستيطانية الإسرائيلية في المنطقة. وكان أهم ما جاء في التعديلات على النصوص الواردة هو "إعطاء الصلاحية الكاملة" للمجلس المحلي، أو ما يعرف للفلسطينيين بمجلس المستوطنات"، أو من ينوب عنها (شخص يُعيّن من وزير الداخلية الإسرائيلية) بالتصرف فوراً حيال ما تطلق عليه "النشاطات التجارية غير المرخصة في المنطقة التي تخضع لصلاحيتها".
واعتبر المركز أن تطبيق القانون سيئ الذكر يندرج في إطار الضم التدريجي للأغوار الفلسطينية بتطبيق قوانين مدنية إسرائيلية على الأراضي المحتلة بديلاً عن تطبيق القانون الأردني ساري المفعول والقانون الدولي الانساني، الذي لا يسمح بتطبيق قوانين الدولة المحتلة على الإقليم المحتل. كما يأتي ذلك في إطار تكريس منظومة الأبارتهايد التي تعطي الكلمة العليا للمستعمر على حساب الشعب الأصلاني، مشيراً إلى أنه "يدرس سبل التصدي القانوني لهذا الإجراء العنصري الهادف إلى تكريس بيئة قسرية تؤدي إلى تهجير المواطنين وحرمانهم من مصادر معيشتهم".