سلطت حادثة انتحار مسن في مقاطعة قوانغدونغ الجنوبية قبل شهرين، الضوء على الظروف الاجتماعية للمسنين في الصين، في ظل نقص الرعاية اللازمة، والعزلة التي يعاني منها نحو 200 مليون مسن في البلاد.
وعثر على جو تشوانغ (72 سنة) مشنوقاً في شقته التي يقيم فيها وحيداً منذ ثلاث سنوات، وقال ابنه الذي يقيم في مقاطعة أخرى، إنه لم يكن يعاني من أية مشاكل صحية أو عقلية، وإنه تحدث إليه هاتفياً قبل يومين من انتحاره، ولم يكن يشكو من أي شيء غير طبيعي.
ويُعد الانتحار خامس مسبب للوفاة في الصين. ورصد المعهد الصيني للعلوم النفسية والاجتماعية، بلوغ معدل الانتحار 9.1 لكل مائة ألف شخص خلال عام 2021، ووصل عدد المنتحرين خلال النصف الأول من 2022، إلى 65 ألف حالة. وكانت وسائل الانتحار الأبرز هي القفز من أماكن مرتفعة، والشنق، وتناول المبيدات السامة.
وغالباً ما يجد الأطباء صعوبة في التواصل مع المسنين بسبب إخفاء معاناتهم، لكن تظل الأزمة في عدم التواصل الطبيعي بينهم وبين أبنائهم وأحفادهم، الأمر الذي يدفعهم إلى الانتحار لوضع حد لحياتهم. وينصح الخبراء بتشخيص أعراض الاكتئاب مبكراً، وتشجيع المسنين على سرد قصصهم، وإحاطتهم بأشخاص يثقون بهم لمساعدتهم.
ويرى محللون نفسيون أن أزمات كبار السن غالباً ما تكون صامتة، حتى عن أقرب الناس إليهم، وقد لا تصدر عنهم أية سلوكيات تشير إلى أعراض غير طبيعية لأنهم يتألمون من دون التعبير عن الألم، ويفضلون عدم البوح بما يشعرون به. بينما يقول أطباء نفسيون إن مسببات الاكتئاب قد تشمل وقائع مهمة، أو تغيرات فسيولوجية مثل انقطاع الطمث بالنسبة للنساء، أو صحية مثل الإصابة بالأمراض المزمنة، أو بسبب الآثار الجانبية لبعض الأدوية التي يتناولها كبار السن.
تأثر الشاب وانغ جيه بقصة انتحار المسن، ويقول لـ "العربي الجديد": "بعد سماع القصة خشيت على والدي الذي يعيش وحيداً منذ سنوات بعد وفاة أمي وزواج أخي الأصغر، لذا قررت قبل أسابيع العودة إلى المنزل، وأحاول إيجاد عمل في المنطقة كي أظل بقربه. والدي يبلغ من العمر 69 سنة، ولا يشتكي همومه، وفي أغلب الأحيان يظل صامتاً، كما أنه لا يرتبط بعلاقات صداقة مع من هم في سنه من الجيران، وبمجرد عودتي عرضته على طبيب للتأكد من أنه لا يعاني من الاكتئاب، وبعد الفحوص طلب مني الطبيب ألا أتركه وحيداً، ونصحني بتزويجه في حال قررت أن أغادر المنزل مجدداً".
بدورها، تقول شي لين، إنها فقدت جدها قبل سنوات بنفس الطريقة، إذ عُثر عليه منتحراً في غرفته. "لم يكن يشكو من أي أمراض، وكان حتى أيامه الأخيرة طبيعياً، لكنه كان دائماً يطالب أفراد الأسرة بالعودة إلى بيت العائلة، في حين يعمل أبناؤه الثلاثة في مدن مختلفة، وكل منهم يعيل زوجة وأولاداً. أفراد الأسرة كانوا يجتمعون مرة واحدة كل عام في بيت جدي في عطلة عيد الربيع، وعرضوا عليه أن يجلبوا له مدبرة منزل للاهتمام به ورعايته لكنه كان يرفض، وفي إحدى المرات عرض عليه عمي أن يرسله إلى دار رعاية في المنطقة، فغضب بشدة، وظل لأكثر من شهرين لا يكلم أحداً. في الأسبوع الأخير، فقدنا الاتصال به، وحين عاد أبي للاطمئنان عليه وجده منتحراً".
ويعتقد أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة صن يات سن، وي لي فنغ، أن اكتئاب المسنين في الصين يمثل ظاهرة خطيرة، ويعكس تردي حالتهم النفسية والصحية بسبب العزلة. ويضيف لـ "العربي الجديد"، أن "هذه الشريحة من المجتمع ليس لديها منبر للتعبير عن نفسها، وحتى لو كان لدى البعض الرغبة في البوح لن يجد من يستمع إليه، سواء على مستوى الأسرة أو المحيط الاجتماعي، لذا ينتهي بهم المطاف إلى الاكتئاب الذي يقود بشكل حتمي إلى محاولة إيذاء النفس".
ويتابع: "سبل مواجهة هذه المشكلة جماعية، فالدولة تتحمل مسؤولية تأمين بيئة صحية لهذه الشريحة التي تمثل نحو 20% من المجتمع، وكذلك الأفراد يتحملون جزءاً كبيراً من مسؤولية إحاطة هؤلاء بأجواء أسرية دافئة، لأن المؤانسة تقتل الاكتئاب، والرعاية المستمرة والرقابة اللصيقة تدرآن أي مخاطر لها علاقة بالانتحار. لكن طبيعة الحياة تحتم على الكثيرين الهجرة باتجاه مناطق العمل، مخلفين وراءهم ملايين المسنين من دون رعاية، كما أن معايير الاستفادة من الضمان الاجتماعي تحول دون قدرة هؤلاء على اللحاق بأبنائهم وأحفادهم في المدن الكبرى، فنظام الضمان الاجتماعي الصيني لا يمنح المواطنين ميزات الرعاية الاجتماعية إلا في مسقط رأسهم، وتلك العوامل تؤدي إلى زيادة معاناة المسنين، والتسبب في موتهم ببطء وصمت".