يحمل شابان استمارات لملئها من المتنزهين والمتريضين على كورنيش المنارة في بيروت. وعلى الرغم من أنّ هذا المشهد الذي يجسده الشابان بنظاراتهما وملابسهما التي تبدو كأنّها خارجة من أحد أفلام أبطال الكوميكس، عن أولئك العلماء الشباب الذين يتوحدون في نظرة الذكاء المنسلخة عن واقعهم قبل أن يكتشفوا قواهم الجبارة، كان قبل معرفة العالم بفيروس كورونا الجديد وما أدى إليه من تدابير إغلاق ووقاية مختلفة الأشكال، فإنّ أسئلتهما للغرابة تتطرق إلى شأن نعيشه منذ أشهر، وربما يستمر معنا طويلاً.
كان الشابان يسألان عن التعلم عن طريق أستاذ روبوت (آلة)، واحتمالات إيجابياته وسلبياته، تبعاً لعالم متغير يتجه نحو الغرق أكثر في عالم الثورة المعلوماتية المستمرة. لا أعرف ما الذي توصلا إليه بعد وإن كانا قد تمكنا من العودة إلى الجامعة أساساً في أعقاب إجراءات الطوارئ المتبعة، لكنّ فكرتهما أمينة لعصرها بالفعل.
في كلّ الأحوال، وقبل الوصول إلى ذلك الأستاذ الروبوت مهما كان شكله وتركيبه، فقد غرقنا مجبرين اليوم في التعليم عن بعد بقوة الفيروس القاهرة، التي كان لا بدّ من التعايش معها من أجل استمرار جوانب الحياة كافة ومنها العملية التعليمية. فعلى المستوى اللوجستي، ليست جميع البلدان مجهزة لتطبيق هذا النوع من التعليم، وليس جميع السكان في البلد الواحد مجهزين له. أما على مستوى الاستعدادات والإمكانات لدى المتعلمين والمعلمين على حدّ سواء فهي متباينة أيضاً بتباين خبرتهم السابقة في الأتمتة (الاعتماد على الآلي الرقمي في الحياة اليومية والعملية) بكلّ ما يرتبط بها. كذلك، فإنّ هذا النوع من التعليم تتدنى فيه نسبة التفاعل إلى مستوى أقلّ بكثير من التعليم الوجاهي القائم على التفاعل أساساً في الكلام والإيماءات ولغة الجسد عموماً، والقائم فلسفياً على التربية والتنشئة الاجتماعية بالإضافة إلى التعليم، حتى في المرحلة الجامعية أحياناً.
يقول البعض إنّ التعليم عن بعد أسهل على الطالب الجامعي من التلميذ المدرسي، لكنّ تلك السهولة يمكن أن تقتصر على اختصاصات تتطلب تفاعلاً بنسب صغيرة، أما العلوم الإنسانية والاجتماعية مثلاً فإنّها مواد تفاعلية 100 في المائة. أبسط مثال على ذلك، يأتينا من فيلسوف العلم توماس كون، الذي يشترط أن يتعلم الطالب من أستاذه ما يمكن أن نعتبره "السرّ العلمي" عن طريق التجربة اليومية داخل المتحدات العلمية التي يتحدث عنها في نظرية البراديغم. هذا السرّ لا يعني تعلم الاختصاص فقط بل كلّ ما يتعلق بالحياة أيضاً، بما فيها من معارف ومواقف وانفعالات وخبرات وآفاق وطموحات ومشاعر متضاربة وتاريخ من الخيبات إلى جانب النجاحات. فهل الأستاذ الروبوت ذاك سيكون أميناً على إنسانيتنا إلى جانب المعرفة التي يقدمها؟ وما الذي سيكون عليه شكل تلك الإنسانية المقبلة؟ علينا أن ننتظر، فربما نصل قريباً إلى ما يتصوره الشابان.