تشهد خارطة الاحتجاجات الاجتماعية في تونس تغيّرات كثيرة، لجهة الخروج من الجهوي نحو المركزي، بالإضافة إلى تحوّلات نوعية رُصدت مع تصدّر المدرّسين والأطباء مجموعات المحتجّين في الأشهر الأخيرة.
وقد كشف التقرير الذي أصدره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول التحرّكات الاجتماعية في نهاية يونيو/ حزيران المنصرم بروز تغيّرات على مستوى هذه الخارطة ومطالب المحتجين، لا سيّما مع انتقال الحراك الاجتماعي من الجهات نحو محافظات تونس الكبرى التي تمثّل مركز القرار السياسي وكذلك الاقتصادي.
وبحسب أحدث البيانات التي تضمّنها التقرير الذي رصد الحراك الاجتماعي في البلاد لشهر مايو/ أيار 2023، فقد تحوّلت العاصمة تونس إلى القبلة الأولى للمحتجّين، وذلك مع 86 تحرّكاً من مجموع 348 تحرّكاً سُجّلت في مختلف محافظات البلاد، الأمر الذي يمثّل 26 في المائة من إجمالي الحراك الاجتماعي.
وبيّن التوزيع الجغرافي للتحرّكات الاجتماعية أنّ إقليم العاصمة تونس احتلّ الصدارة تلته محافظة القيروان وسط غربي البلاد التي سجّلت 22.4 في المائة من مجموع التحرّكات المرصودة، في حين توزّعت التحرّكات الباقية بنسب متفاوتة في مختلف محافظات البلاد.
وقد مثّل المدرّسون الفاعل الأبرز في احتجاجات شهر مايو من خلال تنفيذهم 97 تحرّكاً احتجاجياً، يليهم أطباء الصحة العامة الذين نفّذوا 72 تحرّكاً، في حين نفّذ موظفو القطاع الحكومي 53 تحرّكاً في مقابل 33 تحرّكاً فقط للعاطلين من العمل وطالبي الشغل.
وأعاد الباحث في علم الاجتماع خالد الطبابي التغيّرات المهمّة في الحراك الاجتماعي لجهة تغيّر الخارطة والمحتجّين إلى "الحالة النفسية العامة للمواطنين التي يطغى عليها الإحباط وفقدان الأمل، الأمر الذي يفسّر التراجع الكبير في التحرّك الذي ينفّذه عادة العاطلون من العمل".
وقال الطبابي لـ"العربي الجديد" إنّ "طالبي الشغل مثّلوا لسنوات طويلة المحرّك الأساسي للاحتجاجات والإضرابات التي شهدتها محافظات البلاد ،غير أنّ شعورهم بالإحباط وعدم تقديم السلطات وعوداً واضحة بتشغيلهم تسبّب في فتور حراكهم الاجتماعي".
أضاف الطبابي أنّ "بروز حراك اجتماعي قطاعي، لا سيّما في صفوف المدرّسين والأطباء والموظفين، يفسَّر بأنّ مطالب نقابية مهنية أساساً سيطرت على المشهد العام في غياب حلول لمطالب قطاعات واسعة، من قبيل قطاع المدارس في التعليم الابتدائي وكذلك الثانوي".
وأشار الباحث في علم الاجتماع إلى أنّ "مقياس الثقة في السلطات الجهوية تراجع بصورة لافتة، الأمر الذي أدّى إلى انتقال المطالب والاحتجاجات من المحافظات الداخلية إلى العاصمة التي تمثّل مركز القرار". ويؤكد أنّ "العاصمة تونس تمثّل الثقل المركزي، لا سيّما السياسي، وهو ما يجعلها مسرحاً للاحتجاج أياً تكن خلفيته".
لكنّ الطبابي رأى أنّ "الحراك الاجتماعي في تونس أُصيب بالتصدّع نفسه الذي شهدته الأحزاب والمنظمات الكبرى، إذ لم تعد الجهات حاضنة للديناميكية الاجتماعية. كذلك شمل هذا التصدّع الاتحادات الجهوية للشغل، بعد بروز خلافات بين المركزية النقابية وعدد من النقابات القطاعية أو الجهوية".
وقد مثّل الإضراب عن العمل وسيلة الاحتجاج الرئيسية التي اعتمدتها القطاعات الغاضبة التي تعيش على وقع أزمات مستمرة ومطالب متجدّدة لم تجد طريقها إلى الحلّ، من بينها قطاع التعليم والقطاع الصحي والقطاع الإعلامي وكذلك التجاري. وبالتالي مثّل الإضراب عن العمل 23.5 في المائة من مجموع الأشكال الاحتجاجية التي نُفّذت على امتداد شهر مايو الماضي.
وبيّنت الأرقام الواردة في تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ أطباء القطاع الحكومي خاضوا 72 إضراباً من مجموع 80 إضراباً مرصوداً، وقد نفّذوها في المستشفيات طلباً لتحسين الواقع المهني عبر توفير البنية التحتية والإمكانيات اللوجستية وتحسينها، إلى جانب مطالب مهنية أخرى.
كذلك مثّل العطش وتحسين البنية التحتية وإيجاد حلول للمصاعب والتحديات التي تواجهها منظومة الإنتاج الزراعي أبرز مطالب المحتجّين، إلى جانب الحقّ في العلاج وتوفير طبّ الاختصاص في الجهات، من دون أن تلقى هذه الاحتجاجات أيّ تفاعل يُذكر محلياً وجهوياً ومركزياً، لا سيّما لجهة التجهيزات الصحية وغياب طبّ الاختصاص وتواصل تردّي المنظومة الصحية وتراجع خدماتها، بحسب المنتدى.