تلاحق السلطات السودانية منذ أسابيع الباعة "الفرّيشة" الذي يعرضون بضائعهم في أراضي شوارع العاصمة الخرطوم، ضمن حملات تقول إنها تنفذها "لتنظيم أسواق المدينة ومكافحة الانفلات الأمني". لكن هذه الحملات تواجه انتقادات كثيفة لعدم مراعاتها الظروف الاجتماعية الخاصة بالباعة.
وتشدد السلطات على رفض "العشوائية المعتمدة في أساليب البيع التي تخلق فوضى كبيرة في العاصمة وتؤثر على الوضعين الأمني والصحي للسكان وتهدد سلامتهم، وتتسبب في ازدحام مروري وحوادث في طرق رئيسة، وتتعدى أيضاً على حرية المواطنين"، علماً أن ظاهرة بيع البضائع في الشوارع وتزايد الأعمال الهامشية مثل غسل السيارات ومسح الأحذية ترتبط بانتشار البطالة والفقر، وتفشي النزاعات في بعض المناطق التي تحتم نزوح آلاف الشبان إلى الخرطوم في سبيل إيجاد عمل بالدرجة الأولى، وتجنب احباطات المشكلات الاجتماعية.
مطاردة "مهن هامشية"
وتشير إحصاءات غير رسمية إلى أن أكثر من 3 آلاف شخص غالبيتهم شبّان وبينهم نساء اختاروا افتراش الأرض لبيع حقائب نسائية وساعات ونظارات وملابس، خصوصاً في سوق ككر وموقف جاكسون والسوق العربي وسط الخرطوم، وبينهم ياسر حمودة الشاب في العقد الثالث الذي فرّ قبل سنوات من ولاية شمال دارفور (غرب) التي تأثرت على غرار ولايات أخرى بحرب أهلية ونزاعات قبلية لا تزال مستمرة، وعمل في مهن هامشية في الخرطوم سمحت بجمعه مبلغاً مالياً ساعده في التحوّل إلى بيع الحقائب النسائية قرب موقف ككر. ووفر هذا العمل لفترة القوت اليومي لحمودة وذلك الخاص بأسرته، قبل أن يضطر إلى وقف البيع بعدما تعرض لمطاردات كثيفة من رجال الشرطة وعناصر قوات الدعم السريع ضمن حملات منع نشاطاتهم، وبات غير قادر اليوم على تأمين حتى مصاريف تنقلاته داخل الخرطوم.
ويتحدث حمودة لـ"العربي الجديد" عن أن "الحملة لم تراعٍ الظروف الإنسانية لشريحة يعتمد رزقها اليومي على نشاط مصالح البيع البسيطة في الشوارع، علماً أننا مقتنعون تماماً بأهمية تنظيم الأسواق والحفاظ على الأمن، لذا قدمنا مجموعة اقتراحات للسلطات من أجل معالجة الإشكالات الخاصة بالمسألة عبر تدابير تسمح بتنظيم نشاطاتنا التجارية، لكنها لم تلقَ أي استجابة من الحكومة التي تصرّ على مواصلة مطاردتنا وتعريض بعضنا لأحكام قضائية بينها دفع غرامة 5 آلاف جنيه، (11 دولاراً). وقد أجبر بعضنا على دفع رشاوى إلى مسؤولين في الحملات لتجنب إحالتهم إلى المحاكمة".
ويشير حمودة الى أن "الباعة المعنيين بقرار منع نشاطاتهم صعّدوا قضيتهم عبر مذكرات رفعوها إلى والي الخرطوم ومجلس الوزراء ولجنة تفكيك نظام 30 يونيو، وعرضوا فيها واقعهم المعيشي مقترحين حلولاً، لكن هذه المذكرات ذهبت أدراج الرياح ولم يُستجب لها، ما عرّض الباعة وآلافاً من أفراد أسرهم إلى مشاكل اجتماعية عدة قد تظهر آثارها قريباً عبر تشريدهم مع أسرهم في طرقات المدينة".
مشاعر "اضطهاد"
ولا تختلف قصة حمودة عن رفيقه الطيب آدم المتحدر من ولاية الجزيرة (وسط) الذي يعمل في بيع مستلزمات الهواتف الخلوية. ويقول لـ"العربي الجديد" بعدما تعرض بدوره لحملات مطاردة: "أواجه بعد تجميد نشاطي التجاري المحدود تهديد طردي مع زوجتي وأبنائي الثلاثة من منزل استأجرته للعيش في الخرطوم، ويمكن وصف ما أتعرض له مع فئة من المجتمع اختارت تحصيل رزقها بطرق الحلال عبر ممارسة مهن شريفة، بأنه اضطهاد يمارس عبر حملات أمنية ذات بعد سياسي تتحجج بتنظيم الأسواق من دون أي مراعاة إنسانية أو اجتماعية، وهو سلوك مرفوض رغم زعم استناد الحملات إلى مطالب من لجنة السوق تتعلق بفتح الطرق وتنظيمها".
ويلخص آدم الاقتراحات التي قدمها الباعة لتنفيذ تنظيم يراعي البعد الاجتماعي والإنساني لآلاف البشر، بالسماح لهم ببيع بضائعهم على أطراف شوارع بطريقة لا تحدث أي خلل بالمظهر العام، ودفع رسوم شهرية للسلطات المحلية قد تنعش الخزينة العامة.
ويؤكد أن "ما يواجهه الباعة المتنقلون والفرّيشة لا يتلاءم مع أهداف الثورة التي نفِذت لتحقيق العدالة الاجتماعية ونصرة المسحوقين. ونسأل عن أسباب استهداف الشرائح الضعيفة دون غيرها، خصوصاً في ظل تفشي الفوضى في مواقف المواصلات، وتمدد المتاجر ومظاهر مخالفات أخرى".
وكانت الشرطة استخدمت الغاز المسيل للدموع خلال مواجهات اندلعت في الخرطوم واستمرت أسابيع مع باعة أصروا على عدم الاستسلام للحملات ومواصلة العمل في مصالحهم، قي مقابل تمسك سلطات العاصمة بالمضي في حملاتها ضد كل النشاطات غير المرخص لها، خصوصاً عند مداخل مواقف وسائل المواصلات لضمان الحفاظ على أرواح المواطنين وممتلكاتهم.
وتعتبر السلطات أن الانفلات الأمني يشكل أحد أسباب انعدام التنظيم في الأسواق، وأن البيع العشوائي لا يمنح المواطنين حرية التسوق الآمن. وقد وعدت بحصر الباعة ضمن وحدات إدارية تمهيداً لإنشاء أسواق بديلة تستوعبهم، مؤكدة أن حملاتها "تساهم إلى حدّ كبير في توفير معايير النظافة المطلوبة للمدينة تمهيداً لتحسين تصريف مياه الأمطار وخلق بيئة أفضل".
كرّ وفرّ
ويرى الصحافي عثمان شبونة في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "أحداً لا يختلف على ضرورة تنظيم الأسواق في شكل حضاري وراقٍ يضمن تسهيل حركة المشاة وركاب السيارات ووسائل النقل باعتبار أن هذه الأمور تخدم المصلحة العامة للمواطنين حتى إذا حصل ذلك على حساب باعة عشوائيين قليلين، مع التحفظ على بعض الأساليب التي تستخدمها السلطة في التعامل معهم".
يضيف: "شاهدنا في الفترة الأخيرة حركة نشطة يومية لشرطة العاصمة الخرطوم، وضبطها الأسواق والطرق عبر حملات كثيفة تستهدف الباعة الفرّيشة الذين يتخذون من الشارع مصدراً لكسب الرزق من بيع سلع متنوعة. واللافت أن الشرطة ضيّقت على أعمال هؤلاء الباعة وصادرت بضائعهم، لكنهم دأبوا على العودة إلى الشارع لأن حاجتهم أكبر من أي تدابير تتخذها السلطة ضدهم. ويعني ذلك أن لا جدوى حالياً من الحملات ضد الباعة الفرّيشة الذين أجبرتهم الظروف على معايشة هذا الوضع المذل وعدم الانصياع إلى رغبة السلطات التي لا تملك أفكاراً أو بدائل لمعالجة أوضاعهم عبر تجهيز أسواق تقيهم شر المطاردات والخضوع لحراسة أحياناً، وكذلك من فقدان رؤوس أموالهم المتواضعة كلما صادرت الشرطة بضائعهم".
ويرى شبونة أن "لا أمل بحلول لمشكلات جيش من المطحونين لا يجدون قوتهم اليومي في ظل محاصرة المجتمع بالغلاء، وتعامل حكومة هشة مع الوضع السيئ. ومع مخاطر التضييق على هؤلاء الباعة دخل بعضهم في زواريب الجريمة، من هنا ضرورة تحسين الوضع الاقتصادي لإيجاد بدائل لهم".
شراكات للحلول
أما الأمين العام لوزارة الإعلام في حكومة ولاية الخرطوم، يوسف حمد، فيوضح أن "حكومة الولاية تعتمد استراتيجية بناء مدينة تتمتع بمواصفات ذات كفاءة عالية للمواطنين أقله على صعيدي الخدمات والجمالية. من هنا باشرنا إزالة التعديات والتشوّهات من الشارع العام، وتنظيم الأسواق التي فقدت وظيفتها الأساس في توفير مبيعات الجملة، وباتت أسواقاً للتجزئة امتدت إلى شوارع عامة، ما ساهم في إبطاء حركة النقل في الخرطوم".
يضيف: "لمعالجة هذا الخلل، خططت حكومة ولاية الخرطوم لتحسين تجهيز الأسواق الشعبية في الأحياء باعتبارها أماكن تجارية بديلة. وتدعو اليوم إلى إنعاش هذه الأسواق التي تلبي احتياجات 1957 حياً، ورفع عددها الذي قد يساعد في تقليل كلفة المواصلات وزيادة سرعة الحركة فيها. ومن أجل إنجاح آليات التنفيذ، أشركت الحكومة القطاع الخاص في لجنة تطوير الأسواق والمناطق الصناعية بولاية الخرطوم المكلفة النظر في وضع الأسواق. وينتظر أن تقدم اللجنة اقتراحاتها حول إنشاء أسواق ومناطق ومدن صناعية ومجمعات تجارية على نسق حديث ومتطور.