اعتاد الصينيون التوجّه إلى المعابد للمطالبة بالثروة والصحة وإنجاب الأطفال، ولكن مع التطور التكنولوجي تحوّل هذا السلوك إلى نشاط يومي عبر الإنترنت، وأصبح أكثر تنوعاً مع دمجه بعلم التنجيم الغربي. هذا ما يؤكده استقطاب حساب للتنجيم الإلكتروني على منصة "دو يين" الشهيرة، منذ إطلاقه مطلع العام الحالي، أكثر من 20 مليون متابع، بينهم مليونان انضما خلال أسبوع واحد فقط.
ويجمع المحللون في الصين على أن الشباب أكثر استعداداً من أي وقت مضى لوضع مصيرهم في أيدي "عرّافين عنكبوتيين". ويرون أن هذا الاتجاه يكشف تزايد القلق في شأن أنماط الحياة الجديدة في المجتمع، مع الانجرار وراء مجموعة من "الروحانيين" الذين قد يغررون بالشباب بذريعة مساعدتهم في استعادة اتزان أمور حياتهم.
ويعتبر سوق التنجيم الإلكتروني في الصين أحد أكثر الأسواق الناشئة ازدهاراً اليوم، إذ استغلّ عدد من العرافين الثورة التكنولوجية التي شهدتها البلاد خلال العقد الماضي لإطلاق منصات خاصة بهم تقدم خدمات التنجيم عبر تطبيقات يمكن تنزيلها على الهاتف الخلوي. وتفيد بيانات رسمية صادرة عن إدارة "ويشات" أن شبكة الإنترنت في الصين تضم أكثر من 300 منصة تُعنى بالتنجيم يتابعها أكثر من 400 مليون مستخدم، علماً أن منصة "أنكل تونغ داو" تحظى بالمتابعة الأكبر حجماً عبر 97 مليون شخص، ثم منصة "جين لي دا وانغ" بـ 55 مليون شخص، و"تاو باي باي" بـ 20 مليون شخص.
ويحتل موضوع التنجيم المرتبة الثالثة في قائمة الاهتمامات الكبرى للصينيين على محرك البحث الشهير "بايدو" المعادل الصيني لموقع "غوغل"، وذلك بعد أخبار الفنانين والمشاهير، والمناطق السياحية.
وتقدم تطبيقات التنجيم خدمات متنوعة، مثل أسئلة وأجوبة مدفوعة، وتوقعات للفترات القريبة والبعيدة، وقراءة الطالع، والتوقعات اليومية والأسبوعية والسنوية للأبراج، ودروس في علم التنجيم، إضافة إلى تحديد أرقام وتواريخ الحظ والثروة، وهي مهمات وتنبؤات تترتب عليها قرارات مصيرية مثل علاقات الصداقة والزواج والطلاق وإنجاب الأطفال وتسميتهم، وتغيير الوظيفة أو مكان السكن.
ويشير ذلك إلى أن التنجيم تحوّل اليوم عبر استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة إلى مرجع لملايين الشباب، وعاملاً حاسماً في تحديد العلاقات العامة في مجتمع يضم 1.4 مليار شخص، علماً أنه كان قد واكب التاريخ الصيني القديم كوسيلة للتنبؤ بالحوادث والكوارث والحروب، وشهد احتلال العرافين مكانة مرموقة خلال فترات السلالات الحاكمة، ولعبهم أيضاً دوراً مهماً في تنصيب بعض الأمراء، واتخاذ قرارات مصيرية في تاريخ البلاد.
اتزان نفسي
تقول لي مينغ (22 عاماً) طالبة اللغة الفرنسية في جامعة بكين لـ"العربي الجديد": "لا أستطيع أن أبدأ يومي من دون أن أقرأ طالعي وأتعمق في تفاصيله المهمة بالنسبة لي. ويحصل ذلك عبر الصحف اليومية أو التطبيقات الإلكترونية المتخصصة بهذا الشأن، والتي سهّلت الوصول إلى العرافين مقارنة بالسنوات الماضية التي كانت تتطلب قطع مسافات طويلة للقاء عرّاف في مكتبه أو منزله".
ورداً على سؤال عن أسباب لجوئها إلى المنجمين، توضح لي أن قراءة الطالع تشعرها بالاتزان النفسي وسط الضغوط التي تواجهها في الدراسة والحياة اليومية. وتشير إلى أن الأمر لا يتعلق بدرجة إيمانها واقتناعها بعلم التنجيم، لكن مجرد الاستماع إلى نصيبها من الحظ والسعادة يمنحها حصانة نفسية ضد أي منغصات قد تواجهها.
وعن التكاليف، تدفع لي اشتراكاً شهرياً قيمته 300 يوان صيني (50 دولاراً) في أحد التطبيقات. وتشرح أن "كلفة الاشتراك ترتبط بكمية الخدمات التي يطلبها المستخدم ونوعيتها، فإذا أراد توجيه سؤال مباشر إلى عرّاف سيضطر إلى دفع مبالغ إضافية، وكذلك إذا رغب في إجراء محادثة صوتية أو محادثة فيديو معه. أما إذا تعلّق الموضوع الذي يريد المستخدم بحثه بقرارات مصيرية، مثل اختيار توقيت الزواج أو السفر، فستتجاوز قيمة الاشتراك الشهري 500 يوان صيني (90 دولاراً).
طاقة إيجابية رغم استنزاف الجيوب
يفسر الباحث في علم الاجتماع شياو خي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، الظاهرة بأنها "ترتبط بشعور الشباب بأن حياتهم خارجة عن سيطرتهم، ورغبتهم الملحة في فهم القوى الكامنة وراء مصيرهم، ما يجعلهم ينجذبون إلى المنجمين الذين يعتقدون بأنهم يملكون قدرات مميزة ومواهب محددة قادرة على منحهم درجة من الثقة والاستقرار النفسي لخوض غمار الحياة وتفاصيلها اليومية بثقة كبيرة".
ويتابع: "ساعد التطور التكنولوجي المنجمين في الوصول إلى أكبر شريحة من الشباب المضطرب نفسياً عبر تطبيقات سهلة وبسيطة، ما جعل عملية التواصل المباشرة لا تخضع لضوابط أو رقابة سواء من المؤسسات المجتمعية الخاصة أو الحكومية، علماً أن عدداً كبيراً من منصات التنجيم تستغل احتياجات الشباب وتستنزف جيوبهم، وقد انتشرت شكاوى كثيرة أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية تتحدث عن تكرار الإجابات، وتداول أكثر من منصة المحتوى ذاته".
ومن أجل إظهار مقدار ارتباط الشباب بالتنجيم الإلكتروني، عرض شياو لدراسة حديثة أظهرت أن نسبة 82 في المائة من الذي استطلعت آراؤهم، أكدوا أنهم يؤمنون بالعرافين ويثقون بمنصاتهم على شبكات الإنترنت، وأن 47 في المائة منهم يتصفحون مواقع التنجيم مرة واحدة أسبوعياً على الأقل، بينما قال 9 في المائة منهم إنهم لا يباشرون أعمالهم اليومية من دون مشاهدة التطبيقات الخاصة بقراءة الطالع والحظ.
وكانت مؤسسات مجتمعية قد دعت سابقاً شركات التنجيم في الصين إلى الحفاظ على القيمة الأساسية لإرضاء احتياجات المستخدمين من خلال تضمين الراحة النفسية والطاقة الإيجابية وتخفيف التوتر في رسائلها، بينما اعتبرت أخرى أن الذكاء الاصطناعي والمعلومات والبيانات الضخمة قادرة على جعل علم التنجيم أكثر إقناعاً، ووسيلة لضخ الطاقة الإيجابية في المجتمع الصيني.