على مدار قرون، مثّلت "التويزة" أبرز صور التضامن والتكافل بين الجزائريين في مبادرات اجتماعية تزيد من قوة الارتباط بين أبناء القرية أو البلدة الواحدة، وتتيح مشاركة جماعية في إحياء عادات متوارثة، أو إنجاز مشاريع تعود بالفائدة على المجتمع المحلي.
تعني لفظة "التويزة" باللهجة الجزائرية الدارجة "التآزر"، وهي نظام اجتماعي متوارث في كثير من الولايات، وتمثل مختلف صورها معاني الترابط بين أفراد المجتمع، خصوصاً في القضايا المتعلقة بالمنفعة العامة، والتي يشارك فيها جميع الأفراد، ومن بينها حصاد المحاصيل المختلفة، وأبرزها الزيتون، أو بناء المساجد، وتنظيف المقابر، إضافة إلى حفر الآبار، وبناء منازل للمحتاجين، وتهيئة الطرق، وإنجاز الجسور، فضلاً عن مبادرات التنظيف والتشجير، وعادة ما تكون "التويزة" موسمية لارتباطها بعمليات الحرث والبذر والحصاد.
يستعين منظمو "التويزة" عادة بشيخ القرية، أو أحد الأعيان أو الأئمة الذين يحظون بمكانة كبيرة في المجتمع المحلي من أجل دعوة السكان للمشاركة، ويؤدي ذلك على الأغلب إلى المسارعة لتلبية النداء، إذ يعد التخلف عن الحدث معيباً، حتى إنه من التقاليد المتبعة في بعض مناطق القبائل والشاوية وبني ميزاب، أن يُفرض على المتخلف دفع تعويض مالي.
وتجاوز عدد سكان الجزائر 45 مليون نسمة بنهاية عام 2021، حسب الأرقام الرسمية، ويتركز الكثير من السكان في المدن الكبرى لوجود المصالح الخدمية ومراكز العمل والتعليم وغيرها، وشهدت العقود الأخيرة نزوحاً ملحوظاً من القرى والأرياف نحو المدن.
وتعتبر منطقة القبائل، والغالبية العظمى من سكانها من الأمازيغ، رائدة في مبادرات التضامن والتكافل الاجتماعي، ويعرف عن أبناء مناطق تيزي وزو، وبجاية، والبويرة تجارب رائدة في الترابط والتلاحم بين الأفراد، واشتهرت العديد من المبادرات الخيرية والاجتماعية التي تنظمها "لجان تسيير الدشرة"، والتي تعرف محلياً بـ"تاجمعت"، وهي عبارة عن نظام إداري يتولى تسيير أمور قرى منطقة القبائل منذ مئات السنين، ويفرض على سكان كل قرية المشاركة في التويزة، أو دفع تعويض في حال الغياب لظروف تمنع من المشاركة مع المجموعة، في مشهد يعكس معنى النظام التقليدي للمجتمع الجزائري.
صُنفت قرية "ساحل" بمنطقة تيزي وزو، أجمل وأنظف قرية في الجزائر، وذلك بعد أن نجح سكانها بفضل "التويزة" في تحويلها إلى وجهة سياحية يقصدها الناس من كل صوب بعد عمليات تهيئة عرفتها بلمسات إبداعية شارك فيها الكبير والصغير.
يقول أمقران محمد، وهو أستاذ في المدرسة الثانوية وأحد أعضاء لجنة القرية، إن "التجاوب مع نداءات التضامن والتطوع كان كبيراً، كونها عادة نحاول الحفاظ عليها، خاصة أنها أعطت نتائج إيجابية شملت تحويل أزقة قريتنا الصغيرة إلى متحف فني من خلال عمليات تعبيد الطرق بالإسمنت الفني المطبوع، وتجديد شبكات الصرف الصحي والمياه، وتحديث الإنارة العمومية، وطلاء البيوت من الخارج بلون موحد، وإنجاز جداريات متنوّعة، وقد حدث كل هذا بفضل المبالغ المالية التي جُمعت من أهل القرية، وبمساهمة أبنائها".
في قرية "تفلكوت"، يتجمع النساء في بساتين الزيتون مترامية الأطراف في مناطق أعالي القرية من أجل جمع المحصول، ومن بينهن صديقات الحاجة سليمة، واللاتي يقمن بفرش قطعة كبيرة من البلاستيك على الأرض لجمع حبات الزيتون التي يجري قطفها ورميها من أعالي الشجر بأدوات خاصة، وسلالم تستعمل لهذا الغرض، وبعد انتهاء مهمة جني الزيتون يجتمعن لتناول فطور جماعي في أحضان الطبيعة، يتكون من خبز الكسرة واللبن وبعض الفاكهة والأطباق المحلية، والتمتع بهواء نقي ينسيهم تعب جني المحصول.
يقول المختص في علم الاجتماع، حليم مصطفى في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "التويزة تقليد تعاون إرادي متوارث، وعمل تطوعي حر يستند إلى ما يطلق عليه المشاركة الجماعية، فالإنسان بطبعه اجتماعي، وهو ضعيف عندما يعيش بمفرده، وبالتالي فإن التويزة تعمل على تكريس ثقافة التكافل والتضامن التي تضمن الوحدة الاجتماعية، وهي نموذج لدوام البناء الاجتماعي في المجتمع الريفي، ولا يمكن لها أن تستمر في المجتمع الريفي إلا من خلال العصبية التي ترتكز في مستواها الأول على القرابة، سواء كانت برابطة الدم أو النسب، أو ما يمكن أن نسميه التضامن الآلي في المجتمع التقليدي".
وتبرز التويزة في بعض مناطق شرقي الجزائر خلال عمليات الحصاد، حيث يحضر الرجال حاملين مناجلهم إلى حقول القمح والشعير للمشاركة بالحصاد، خصوصاً في المناطق التي يتعذر على معدات الحصاد الحديثة الوصول إليها نظراً لصعوبة التضاريس، ومنها منطقة "بطيب" ببلدية السبت في محافظة سكيكدة، حيث يلبي الشباب والشيوخ نداء بعضهم البعض لحصاد المحصول، في عادة توارثوها لسنوات طويلة أبا عن جد، ويحرص كثيرون على الحفاظ عليها.
يترسخ النظام التضامني ذاته في منطقة غرداية جنوبي الجزائر، حيث تعتبر التويزة عادة اجتماعية تأبى الزوال على الرغم من توالي الأجيال، ويظهر ذلك جلياً في مبادرات الزواج الجماعي التي يجري تنظيمها سنوياً عبر جمع المال من التبرعات والاشتراكات، وخلال تلك المبادرة، يجري تكوين مجموعات، وتكليفها بمهام محددة لإنجاح الحدث، كما يجري التكفل بتهيئة المنازل التي سيقطنها العرسان الجدد.
وتعرف محافظة غرداية أيضاً تنظيم التويزة لإنجاز المدارس القرآنية والزوايا التي تحظى بقيمة اجتماعية كبيرة في المنطقة، وكذا المشاركة السنوية في تهيئة مجاري المياه الطبيعية المعروفة محلياً باسم "الفقارة".
وتبرز "التويزة" في جميع أنحاء الجزائر عندما يتعلق الأمر ببناء المساجد، والتي تحظى المشاركة فيها بمكانة خاصة لدى الجزائريين، ويستجيب الجميع للنداء حسب قدرته على المشاركة في مراحل الإنجاز، ويعتبر المشاركون أن كسب الثواب من دعاء المصلين مكافأة كبيرة لا تقدر بمال، وبخلاف بعض المساجد التي تكفل ببنائها محسنون من الأغنياء، فإن غالبية مساجد المحافظة أُنجزت عبر نظام التويزة.
في قرية "بلعاليا أحمد" ببلدية حمر العين في محافظة تيبازة، تمكن إسماعيل بوكروشة وجيلالي بن يامنة مع أعضاء لجنة مسجد عبد الحميد ابن باديس، من إعادة بناء المسجد بالكامل خلال ثلاث سنوات عبر جهود وتعاون أبناء القرية، والذين كانوا يشاركون في نهاية كل أسبوع في عمليات البناء والتهيئة، كل حسب تخصصه وقدرته، وتسعى اللجنة حالياً من خلال الجهود ذاتها، إلى تهيئة مسكن قديم لتحويله إلى مدرسة قرآنية وروضة أطفال خيرية.
وتجاوزت "التويزة" في الكثير من المناطق المبادرات التطوعية، وأصبحت عرفاً اجتماعياً صارماً، وموروثاً ثقافياً يساهم في الحفاظ على التماسك الاجتماعي، ففي منطقة القبائل على وجه الخصوص، يتعرض المتخلف عن التويزة إلى عقوبات مالية، وفي حال الإصرار على تكرار التخلف، يتعرض للعزل الاجتماعي باعتباره خارجاً عن قانون القرية، إذ يعتبر رفض المشاركة تهديداً لنظام القرية، ويرى شيوخ القرى وأعيانها أن التمرد على العادات والتقاليد الراسخة منذ عقود غير مقبول، ويقررون الطريقة لحرمان المتخلف من الخدمات، وصولاً إلى قرار الطرد من الجماعة، أو وضعه في القائمة السوداء التي تضم المتمردين على أعراف التعاون والتكافل.
تقول المختصة في التراث، نسال مالية، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "عملية التطوع الجماعي التي تعرف محلياً باسم (التويزة) هي موروث ثقافي متجذر في المجتمع الجزائري، وما زال شائعاً في بعض المناطق، خاصة تلك المعروفة بقوة التماسك الاجتماعي، وهي عادات تمارس لتحقيق أهداف للمجتمع، أو للعائلات، أو تحقيق منافع عمومية، وكلها أمور ينبغي الحفاظ عليها، نظراً لما لها من دور واضح في الحفاظ على عادات إيجابية تؤدي إلى مجتمع مستقر خال من الصراعات".
وتستطرد مالية أنه "مع التحول الاجتماعي الذي عرفه المجتمع الجزائري من خلال النزوح من الريف إلى المدن، وظهور تجمعات سكانية مختلفة الطباع والتقاليد، فضلاً عن بروز المجتمع الحضري، تقلص نظام التويزة في بعض المناطق، وخصوصاً المناطق الجديدة التي لا يُقارن الترابط المجتمعي فيها بما هو عليه في المناطق القديمة".