"الراتب، أي بدل شهر من العمل الشاق، يُصرَف في يوم واحد". بهذه الكلمات تُلخّص رانيا، وهي ربة منزل لبنانية، الواقع في البلاد. تقول بكثير من الحرقة والألم: "أرى زوجي يذوب أمامي كالشمعة. يُعاني من إرهاق شديد ويواجه يومياً الإذلال في وظيفة لا تؤمن له الحدّ الأدنى من الحقوق، وتبقيه ساعات إضافية في العمل مستغلة الأزمة وانعدام فرص العمل وارتفاع نسبة البطالة، ليتبخّر أجره في أقلّ من أربع وعشرين ساعة".
تشير رانيا إلى أنها تولّت منذ زواجها قبل أربعين عاماً مهمة توزيع المصاريف المنزلية ودفع الفواتير وشراء الأغراض المنزلية والمواد الغذائية. ودائماً ما كانت تتبع أسلوب الإنفاق الاقتصادي بحسب وضع أسرتها المعيشي من دون تبذير، فكان الراتب يبلغ مليونين و250 ألف ليرة لبنانية، أي 1500 دولار تقريباً بحسب سعر الصرف الرسمي (1515 ليرة)، ويكفي العائلة حتى تاريخ العشرين من كل شهر، ليغطي كل الاحتياجات الأساسية من مأكل وملبس ومشرب وتعليم وطبابة ومصاريف أخرى. أما اليوم، فلم تعد قيمة الراتب تتجاوز 170 دولاراً تبعاً لسعر الصرف في السوق السوداء الذي يتخطى 12 ألف ليرة. تقول: "الراتب يكفينا ليوم واحد، لا بل لشراء المواد الغذائية فقط في ظلّ الغلاء الفاحش. فكيف نعيش ونستمرّ؟ للأسف، أصبحنا نعيش هاجس الموت فقراً. لا مال يكفي لشراء الطعام ولا قدرة على تأمين أدوية أو دفع تكاليف العلاج".
المخاوف التي تعيشها رانيا يعبّر عنها الكثير من اللبنانيين، وقد زادت حدّتها أخيراً مع الحديث عن قرب رفع الدعم أو ترشيده من قبل مصرف لبنان، عن سلع أساسية ومواد استهلاكية غذائية. سيناريو من شأنه أن يترجم تحليقاً للأسعار وغلاءً فاحشاً وبدء مسار حذرت منه منظمات دولية في تقاريرها حول انعدام الأمن الغذائي وعدم القدرة على الوصول إلى الطعام، وبالتالي الجوع والفقر.
وتزامناً مع بدء العد التنازلي لرفع الدعم، تشهد متاجر لبنان الكبرى تهافتاً كبيراً من قبل المواطنين لشراء وتخزين المواد الغذائية قبل ارتفاع أسعارها، علماً أنّ مشاكل كثيرة سجلت في هذا الإطار خلال الفترة الماضية بين الزبائن أنفسهم أو مع موظفي المتاجر، إذ عمدت الأخيرة للاحتفاظ بالسلع المدعومة في مستودعاتها لبيعها لاحقاً بعد رفع الدعم.
وتشير شركة الدراسات "الدولية للمعلومات" إلى أنّ 19 حادثة عنف سجلت خلال شراء الاحتياجات الأساسية من المتاجر، معظمها في شهر مارس/ آذار الماضي، وفي مختلف المناطق اللبنانية. وأبرز المواد المدعومة التي سجل تهافت على شرائها وحصلت مشاكل بسببها هي الحليب والزيت والسكر.
في المقابل، تضع الدولة اللبنانية اللمسات الأخيرة للبطاقة التمويلية التي ستعطى إلى الأسر الأكثر حاجة إلى الدعم، وتراوح ما بين مليون ليرة (80 دولاراً تقريباً)، و3 ملايين ليرة (240 دولاراً تقريباً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)، تبعاً لعدد أفراد العائلة، علماً أنّ هناك شكوكاً جدية لدى اللبنانيين في مدى شفافية العملية وعدالة التوزيع نتيجة انعدام الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة ومؤسسات الدولة. وهناك خشية كبيرة على مصير ودائع الناس المحتجزة في المصارف، في ظلّ الحديث عن أنّ مصدر تمويل البطاقة سيكون الاحتياطي الإلزامي في المصرف المركزي.
إلى ذلك، يقول المشرف العام على خطة لبنان للاستجابة للأزمة في وزارة الشؤون الاجتماعية عاصم أبي علي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "750 ألف عائلة ستستفيد من البطاقة، بيد أن هناك أموراً كثيرة لم تُحسَم بعد من قبل الوزارات المختصة لجهة المبالغ المحددة. ونحن كوزارة غير معنيين بها وعملنا يرتبط بالأسر المستهدفة، وهي تبقى رهن الدراسات التي يجب أن تجرى، وتتعلق بأسعار السلع الأساسية، والسيولة الموجودة في السوق، وأسعار السلع بعد رفع الدعم عنها. وهنا القرار يعود لوزارتي الاقتصاد والمال إلى جانب مصرف لبنان".
ويلفت أبي علي إلى أنّ "الإجراءات ستكون شفافة، إذ إنّ نسبة المستفيدين من البطاقة تصل إلى 75 في المائة من المواطنين، ما يكفل إقفال الباب حكماً على أي محاصصة أو استنسابية أو توزيع سياسي كما يُشاع. والمعايير ستكون واضحة وستطلق لأجل ذلك منصة خلال أيام تتيح للناس التقدم للحصول على البطاقة بعد الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، منها على سبيل المثال ما هو مرتبط بمستوى الدخل والحالة الاجتماعية وعدد أفراد العائلة. ولن يستفيد منها أصحاب الدخل المرتفع، أو المسافرون خارج البلاد، أو من هو معال من قبل أحد أفراد أسرته الذي يعيش في الخارج".
من جهته، يقول المستشار في التنمية ومكافحة الفقر أديب نعمة، لـ"العربي الجديد": "عدد العائلات في لبنان يصل إلى نحو مليون ومائة ألف عائلة تقريباً، أي أنّ ثلاثة أرباع العائلات اللبنانية ستحصل على البطاقة التمويلية". ويلفت إلى أنّ خطورة هذه العملية تكمن في أنها محاولة جديدة لإرجاء الأزمة بدلاً من معالجتها وإيجاد الحلول المستدامة. وبالتالي، هي أشبه بمسكّن للألم، علماً أنّ هذه البطاقة بالكاد ستغطي حاجات الناس الغذائية، لكن ماذا عن باقي الأمور الحياتية، من طبابة وتعليم وسكن وبدلات إيجار وأقساط، وغيرها من مقومات العيش التي لم يعد يقوى اللبناني على تأمينها؟".
والأخطر في الإجراء المشار إليه، بحسب نعمة، هو كيفية تأمين تمويل البطاقة، والاتجاه إلى المسّ بالاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان وبالتالي ما تبقى من أموال المودعين، بمعنى أن الدولة التي تصادر أموال المواطنين ستأخذ ودائعهم وتوزعها عليهم وعلى من لا يملك حتى ودائع، علماً أنّ المبالغ المتبقية والتي لم تهرب إلى الخارج، تعود بغالبيتها إلى الطبقة الوسطى، وهي جنى عمر موظفين.
ويضع نعمة البطاقة التمويلية، كالاقتراض الدولي للعائلات الأكثر فقراً أو تحت خط الفقر المدقع، في خانة التمويل السياسي الحزبي بهدف إطالة الأزمة، وتمديد الوقت أمام الحكام بانتظار أمر ما وتلافي الانهيار الناجم عن احتجاجات الناس. يضيف: "يعتبر الحكام في التوزيع تخفيفاً لغضب الناس ورصاصة رحمة جديدة، علماً أنه بالتوزيع النقدي سترتفع نسبة الفساد". ويلفت إلى أن "هذه العمليات كلها سيدفع ثمنها الشعب اللبناني من جيبه وودائعه في حين سيتحكم المسؤولون السياسيون بعملية التوزيع على المناطق لنكون أمام محاصصة جدية غنائمية وانقسام جغرافي للمناطق ونهب للمال العام".
وفي أحدث تقرير لـ"الدولية للمعلومات"، يظهر أن نسبة الأثرياء بقيت على حالها بين عامي 2010 و2020، وهي 5 في المائة، فيما تراجعت نسبة الطبقة الوسطى من 70 إلى 40 في المائة، وانتقل الفارق البالغ 30 في المائة إلى الطبقة الفقيرة. يضيف التقرير أن "هناك 2.365 مليون فقير، من بينهم 1.075 مليون لبناني تحت خط الفقر. ودخل الفرد منهم لا يزيد عن 8000 ليرة يومياً (نحو خمسة دولارات بحسب سعر الصرف الرسمي)، وهو الدخل الذي لا يوفر الغذاء الكافي والصحي السليم، علماً أن هؤلاء الفقراء الذين يبلغ عددهم نحو 1.075 مليون شخص يشكلون نحو 220 ألف أسرة".
وأوضح التقرير نفسه أنّ السلة الغذائية لأسرة من 5 أفراد كانت كلفتها بحدود 450 ألف ليرة، وأصبحت اليوم بقيمة مليون و100 ألف ليرة، علماً بأنّ هذه الأرقام استندت إلى سعر صرف 10 آلاف ليرة لبنانية للدولار الواحد، بينما سعر الصرف اليوم في السوق السوداء يتجاوز 12 ألف ليرة، وقد تجاوز سابقاً عتبة 15 ألف ليرة لبنانية، وبقيت الأسعار تبعاً لهذا السعر، ولم تنخفض مع انخفاض سعر الصرف.