"مشهدُ الجرحى والعالقين تحت الأنقاض الذي رأيته في أحد الأيام غيّر حياتي. يوم استهدفت طائرات النظام السوري الحي الذي أسكن في مدينة جسر الشغور في ريف إدلب، شعرت بالعجز والضيق. كنت عاجزة تماماً عن فعل أي شيء، الأمر الذي دفعني للتطوع لمساعدة المحتاجين، واخترت الالتحاق بالدفاع المدني السوري". هذا ما تقوله المتطوعة في ريف إدلب رحاب برني لـ "العربي الجديد"، لدى حديثها عن بداية تطوعها في "الخوذ البيضاء"، قبل أكثر من عامين. تضيف أن الصورة النمطية لدى عامة الناس حول تطوع المرأة في مثل هذه المجالات كانت أحد أبرز العوائق التي فرضت عليها بذل جهد أكبر لإثبات قدراتها.
والخوذ البيضاء منظمة دفاع مدني تطوعية تعمل في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة في سورية. تأسست عام 2013 وتتألف من ثلاثة آلاف متطوع سوري مدني، وتهدف إلى إغاثة المتضررين من جراء الحرب السورية.
درست رحاب التمريض، وعملت على تقديم الإسعافات الأولية في المنظّمة. لكن لم تعد هذه مهمتها الوحيدة بعد تفشي فيروس كورونا الذي هدد حياة عشرات آلاف النازحين في مخيمات إدلب وحلب. تقول رحاب: "بذلنا جهداً كبيراً لمنع وصول الفيروس إلى منطقتنا. لكن بعد بدء ظهور أولى الحالات خارج المخيمات وفي داخلها، وانتشاره بشكل أكبر، بات علينا مسؤوليات أكبر تتمثل في توعية أهالي المخيمات حول خطر الفيروس قبل أن ينتشر بشكل كبير، لا سيما وأن غالبية المخيمات عشوائية، وتضم أكثر من مليون مدني يعيشون في الخيام. وأحياناً، تؤوي الخيمة الواحدة عائلتين".
نتيجة لتفشي فيروس كورونا، انتقلت رحاب من العمل في إطار خدمة "الراصد" (الإنذار المبكر للطيران الحربي) إلى التوعية حول مخاطر كورونا وكيفية الوقاية منه. كانت تتنقل بين الخيام لتقديم النصائح للنازحين حول كيفية الوقاية من الوباء وأعراضه وضرورة الالتزام بإجراءات الوقاية والسلامة. "كانت المهمة صعبة جداً"، تقول رحاب، مضيفة: "كان علينا التواصل يومياً مع عشرات العائلات. لم تكن المشكلة في التعب الجسدي، بل الخوف من مصير مجهول يحيط بالأهالي، ولا سيما كبار السن. في بعض الأحيان، كنت أشعر بالعجز وأنا أشرح لهم عن أهمية ارتداء الكمامة والالتزام بالتباعد الاجتماعي. بعضهم كان لا يملك المال لشراء المعقمات والكمامات، في حين أن الازدحام كان أمراً لا مفر منه. بشكل عام، كنت أحاول بذل جهدي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وخصوصاً أن معظم المراكز الطبية والمستشفيات في الشمال السوري كانت مدمرة، وعدد الأسرّة قليل جداً، وكذلك أسطوانات الأوكسجين. كنت أدرك حجم الخطر، وخصوصاً أن همّ الكثيرين هو بالدرجة الأولى تأمين قوت يومهم وإطعام عائلتهم في ظل أزمة إنسانية كبيرة".
مع بداية تفشي كورونا، كانت رحاب تعمل ساعات طويلة، وكان نطاق عملها يتركز في المخيمات العشوائية المنتشرة على مقربة من الحدود السورية التركية. وعلى الرغم من أن حصيلة الإصابات تراجعت نسبياً خلال الشهرين الماضيين، إلا أنها ما زالت تعيش حتى اليوم حالة استنفار مع الكادر الذي تعمل معه خشية تدهور الأوضاع مجدداً. في الوقت الحالي، يتركز عملها على التعقيم وتوعية النازحين، وإخبارهم أنه لم يتم القضاء على الوباء بعد.
تروي رحاب أنه في أحد الأيام، "وصلت مع الفريق لتعقيم الخيام في أحد المخيمات وتقديم النصائح للأهالي. لكنني فوجئت لدى وصولي بأن إحدى الخيام يسكنها 11 شخصاً معظمهم من الأطفال، تعينهم جدتهم بعدما قتل أبناؤها الثلاثة. جلست إلى جانبها أكثر من ساعتين للاستماع إلى قصتها. فهي كانت في حاجة إلى من يسمعها فقط. يومها، لم أخبرها عن مخاطر كورونا. خرجت من الخيمة ووعدتها بأن أزورها دائماً".
غيّر تفشي الفيروس حياة رحاب، حالها حال معظم الناس. تقول: "لم يكن الأمر سهلاً. يومياً، كنت أتواصل مع عشرات الناس ساعات طويلة. لا شك في أن هذا العمل ساهم في زيادة خبرتي وتطوير قدراتي، كما زاد من حبي للأهالي. سابقاً، كنت أسعى إلى إثبات قدرتي على النجاح في العمل. لكن التركيز اليوم منصبّ على مواصلة العمل لتقديم الأفضل والحفاظ على ثقة الناس". ومثل رحاب، تساعد أكثر من 200 متطوعة في الدفاع المدني المجتمع المحلي من خلال خدمات عدة كالدعم النفسي والإسعاف والإنقاذ وغيرها. تختم رحاب حديثها قائلة: "لا يوجد أعظم من العمل الإنساني ومساعدة المحتاج. وجدت في الدفاع المدني المثال الأعلى وسأبقى إلى جانب المحتاجين ما استطعت".