يُلاحَظ لدى عبور جسر أورسنبرو الذي يربط العاصمة الدنماركية كوبنهاغن بمدينة مالمو جنوب السويد تكثيف الشرطة دورياتها بدرجة أكبر من ثمانينيات القرن العشرين، حين لم تكن الحدود الأوروبية مفتوحة.
ويترافق ذلك مع نظرات متوترة للعناصر الأمنية التي تنفذ إجراءات مشددة في فحص الداخلين إلى السويد تحديداً، ليس فقط بسبب إعادة تطبيق الإجراءات الحدودية إثر موجة اللجوء الكبير عام 2015، بل بسبب اعتقاد الشرطة السويدية والدنماركية معاً بوجود تشابك في عمليات الجريمة المنظمة على طرفي الحدود.
وفي أحد مراكز التسوق وسط مالمو الذي تحرسه دوريات الشرطة، يقول المواطن السبعيني الفلسطيني الأصل منصور العمري لـ"العربي الجديد": "لم تعد السويد كما عرفناها قبل 20 أو 30 عاماً. تغيّر الشارع، وبات التوجس أكبر من مواطني الأصول المهاجرة، في وقت يتسابق السياسيون في إظهار التشدد معهم". يضيف: "حين حضرت للعمل في مصنع للسيارات في السبعينيات، كانت السويد تعكس فعلاً سمعتها في العالم كدولة رعاية ورفاهية تضم مجتمعاً منفتحاً على كل الثقافات، ويتحلى بتفهم وتسامح كبيرين".
ويؤكد أشخاص كثيرون قدموا إلى السويد قبل 7 أو 8 سنوات، ويعيشون خصوصاً في مناطق ذات غالبية من أصول مهاجرة ولاجئة، بسبب تعقيدات الحصول على شقق في أماكن أخرى، أو بسبب رغبتهم في تخفيف آثار الاغتراب عنهم، أنّ نمط "العيش المثالي" تغيّر، حتى أنّ بعضهم يبدون ندمهم من اختيارهم العيش في هذه الضواحي التي تعاني اجتماعياً، ويبدو بعض أطرافها معزولة عن بقية مجتمعات السويد.
أولوية فرض القانون
ويؤكد الناشط السياسي في الحزب الاجتماعي الديمقراطي الحاكم يوهان سيمونسون، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ "مطلب فرض القانون والنظام بات أولوية في المجتمع، وتغلّب حتى على مخاوف ارتفاع تكلفة المعيشة وتراجع دولة الرفاهية، فأخبار القتل والعنف تهيمن على النقاش العام، وتزداد حدتها مع اقتراب الانتخابات البرلمانية". وقبل دعوة نحو 7.5 ملايين مواطن من أصل أكثر من 10.5 ملايين نسمة، للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري، من اجل انتخاب ممثليهم في البرلمان، باتت قضايا الجريمة المنظمة في مقدمة أولويات الشارع.
وقد تلقفت الأحزاب السياسية الثمانية الرئيسة بمختلف ميولها الأيديولوجية، القلق الذي تعززه أرقام وكالة الوقاية من الجريمة، ما حوّل النقاش من قضايا الرفاهية والرعاية والعدالة الاجتماعية، كما جرت العادة، إلى قضايا الجرائم واحتراب العصابات، والخشية من فلتان الأوضاع. وهذه المرة الأولى التي تتصدر فيها قضايا الهجرة والدمج الانتخابات.
طفح الكيل
وكان 19 أغسطس/ آب الماضي شكل موعداً لتحويل النقاش في السويد، حين قال كثيرون إن "الكيل طفح من انتشار العنف، وإن الوقت حان للتصرف". ففي هذا اليوم قتل رجل ثلاثيني برصاص أطلقه مراهق في الـ15 من العمر في مركز تسوق بمدينة مالمو، وكلاهما كانا على علاقة بعصابات.
وأججت التغطية الإعلامية الفورية والمكثفة المشاعر، خصوصاً أنّ الهجوم أدى إلى استنفار أمني ضخم، وتوافد سيارات الشرطة والإسعاف إلى الموقع، وهو جاء بعد أسابيع قليلة من إطلاق شاب دنماركي النار داخل مركز تسوق فيلدز بالعاصمة كوبنهاغن، ما أدى إلى مقتل وجرح متسوقين.
زمن ولّى
بالطبع لم يكن هجوم مالمو الوحيد الذي بث الذعر في نفوس مواطني أكثر مجتمعات الشمال الأوروبي مسالمة وأمناً قبل عقود قليلة، فصورة وواقع البلد الإسكندنافي تغيّرت من تقديمه بأنه بلد الحريات والديمقراطية، ومساعدة شرطته البط في عبور شارع أو إنقاذ حيوانات، إلى التعامل مع حروب تشبه تلك التي كانت تشنها عصابات مدينة شيكاغو الأميركية مطلع القرن العشرين.
وتحتدم منذ نحو 10 سنوات في السويد ما يطلق عليه اسم "احتراب عصابات الممنوعات". وتقدر السلطات انتشار عشرات العصابات في المدن والضواحي، خصوصاً غربي البلاد، وتجنيدها آلافاً من المراهقين بسهولة، ومساهمتها عملياً في جعل المواطنين، وبينهم مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين، في حالة قلق غير مسبوقة على مصيرهم ومصير أسرهم في بلد لجوئهم ومهجرهم بحثاً عن حياة أفضل.
ضواحي القتل اليومي
ولا تخلو وسائل الإعلام السويدية، من أخبار إطلاق النار أو إيجاد عبوة ناسفة، في سياق تنافس العصابات على أسواق المخدرات والممنوعات، رغم أن بعض الضحايا مجرد عابري سبيل لا علاقة لهم بعالم الجريمة، ومنهم سكان الضواحي الأكثر ضعفاً وهشاشة.
ولا تُستثنى ضواحي العاصمة استوكهولم التي تضم تجمعات سكنية إسمنتية يعيش فيها خليط من المهاجرين القدامى واللاجئين الجدد وبضعة سويديين، من دائرة العنف الشاملة، وتصنف بأنها "ضواحِ تعاني اجتماعياً، ما يزيد قلق السلطات الاجتماعية من قدرة العصابات على تجنيد أفراد جدد، خصوصاً المراهقين.
وحتى منتصف العام الحالي، شهدت استوكهولم 23 حادث إطلاق نار أسفرت عن 5 قتلى و5 جرحى، ومالمو (جنوب) 17 حادث إطلاق نار أوقعت قتيلين و3 جرحى. وتطول قائمة المدن وحتى الأرياف التي نقلت العصابات "أعمالها" إليها، حيث ترصد السلطات مئات من حوادث إطلاق النار (نحو 360).
ويبدو أن حصيلة 47 قتيلاً حتى أغسطس/ آب الماضي، ستجعل السويد تضرب رقماً قياسياً في العنف، وتثبت تصدر البلد قائمة دول الاتحاد الأوروبي للدول الأكثر احتضاناً لقتلى حوادث إطلاق النار.
ما بعد العنف... وعود انتخابية
ويورد تقرير أصدره "مجلس منع الجريمة" السويدي ربيع العام الحالي، أن "السويد باتت الدولة الوحيدة في أوروبا التي زاد فيها العنف المميت باستخدام الأسلحة النارية منذ عام 2000، في مقابل تراجع هذا الرقم في دول أخرى، مثل الدنمارك التي سقط فيها 36 قتيلاً خلال 5 سنوات".
وواضح بالتالي أن أسلحة العصابات المتحاربة غيّرت في الأعوام العشرين الأخيرة واقع مجتمع البلد الإسكندنافي، ونقلته من كونه أحد الأكثر انفتاحاً على اللاجئين والمهاجرين الذي يصفهم بأنهم "المواطنون الجدد"، إلى بلد يسوده التوجس والخشية من فقدان السلطات السيطرة على الضواحي على حساب العصابات.
وفي 30 يونيو /حزيران العام الماضي، قتل فتى من أصول مهاجرة في الـ17 من العمر، ضابط شرطة ثلاثيني بالرصاص في حي بيسكوبسغاردن بغوتنبرغ (جنوب شرق)، ما أطلق غضباً كبيراً تحوّل إلى مادة دسمة في الحملات الانتخابية ووعودها.
يقول اللاجئ السوري أبو مازن صباغ الذين يسكن في ضواحي غوتنبرغ لـ"العربي الجديد": "يجعل الواقع المتغيّر سكان الضواحي يعيشون في كابوس بعدما اعتقدوا أن اللجوء سيمنحهم حياة هادئة، خصوصاً أولئك الذين لديهم أبناء مراهقون".
وتخبر الباحثة الاجتماعية في حياة سكان الضواحي، ليندا ستروم، "العربي الجديد"، أن المشكلة التي يواجهها السكان "هي شعورهم بأنهم رهائن بين العصابات، والدعوات إلى التشدد مع المهاجرين. وتظهر شهادات بعضهم مدى الإحباط الذي يشعرون به من تدهور الأوضاع في السنوات الأخيرة".
"ثقافة" الجريمة
ويندر أن يتحدث سكان الضواحي عن استغلال العصابات المسلحة في عالم الجريمة المنظمة في مناطقهم، خشية التعرف إليهم والانتقام منهم، ما يجعل الشرطة تشكو من غياب الشهود، والذي تسميه "ثقافة الصمت". "لكن شاباً في الـ31 من العمر يشارك في برنامج "الخروج من العصابات" بإشراف السلطات الاجتماعية، يقول لـ"العربي الجديد": "إذا امتلك الشخص عملاً مستقلاً، حتى لو كان مطعم بيتزا صغيرا أو مقهى، يجب أن يدفع أموالاً للعصابات تحت تهديد تخريب مشروعه في حال عدم التجاوب".
وعن حوادث إطلاق النار يخبر الشاب أن "الأمر يتعلق ببساطة بمقدار نفوذ مجموعة مقارنة بأخرى، فسوق المخدرات مقسّم بطريقة تجعل حل التداخل والاختلاف على الأموال من خلال السلاح فقط، فمثلاً لن يذهب عضو في عصابة إلى الشرطة، ويطالبها بالتدخل لدى شخص يدين له بمال مخدرات. والتصفية وتبادل إطلاق النار جزء من ثقافة عالم الجريمة السفلي".
وتشمل عمليات العصابات تهريب مخدرات عبر خطوط بعضها من جنوب إسبانيا مروراً بالدنمارك وهولندا، وهي تتحارب على الأسواق، وتورط مراهقين من أصول مهاجرة ولاجئة بعملياتها.
ويرى متخصصون في قضايا الجرائم والعنف، أن أوضاع السويد تتطلب تطبيق مزيد من التشريعات الصارمة لوقف تدهور موقع البلد على صعيد مستوى العيش الآمن مقارنة بباقي الدول الأوروبية.
وتعتقد ستروم بأن الأمور "تتطلب المزج بين صرامة القوانين، والتعاون بين السكان والسلطات لوقف انجذاب مزيد من اليافعين إلى عالم الجريمة المنظمة، بحثاً عن هوية ما".
وتدفع هذه الظروف وغيرها أطرافاً في المجتمع السويدي إلى قبول ما لم يكن مقبولاً في السابق، فحزب "ديمقراطيو السويد" اليميني الشعبوي، بزعامة جيمي أوكسون، يستغل ما يجري منذ سنوات، ويجهد لجعله في دائرة صنع القرار بعد الانتخابات المقبلة، خصوصاً أن بعض أحزاب يمين الوسط تترك الباب مفتوحاً للتعاون معه، وذلك بعد سنوات من تمسكها بمقولة أنه "لا يمكن أن يلعب هذا الحزب دوراً في السياسة".
وليس "ديمقراطيو السويد" وحدهم من يستغلون فرصة قلب الموازين، خصوصاً أن الاستطلاعات تجعلهم "بيضة القبان" لحكم يمين الوسط في المستقبل.
سمعة متراجعة
وفي ما يبدو أن سمعة السويد كبلد مضياف استقبل نحو 200 ألف لاجئ في عامي 2014 و2015، وترحيبه بهم كمواطنين جدد، بدأت تتلاشى مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية، سارعت أحزاب إلى الاستجابة بسرعة لمتغيّرات الشارع القلق من انتشار الجريمة المنظمّة، وأطلقت حملاتها الانتخابية بشعار تطبيق "النظام والقانون" على سلم الأولويات، بدلاً من حلّ مشاكل دولة الرفاهية، وتقليص الهوة بين الفقراء والأثرياء.
"مسح لغوي"
وبحسب ما يجري الترويج له، حتى من يسار الوسط، سيذهب البرلمان القادم إلى مشاريع دمج أخرى وسياسة هجرة مختلفة، مع تقديم مقترحات مثيرة للانتباه حول حياة سكان الضواحي، بينها بدء الدمج منذ الصغر، عبر برنامج "المسح اللغوي للأطفال منذ سن العامين"، علماً أن دراسات رسمية توصلت إلى أن "الصغار في التجمعات السكنية الأكثر هشاشة اجتماعياً يتكلمون لغة سويدية لا تتوافق مع غيرهم من الأطفال السويديين، فيما يعاني الكبار من غياب تعلم اللغة لسنوات، والاكتفاء بالعيش على نظام الإعانة الشهري".
ويلحظ المقترح الخاص باللغة تنفيذ السلطات الاجتماعية مسحاً لأطفال الضواحي منذ سن 5 أعوام لفحص، واكتشاف ما إذا كانوا يعانون من "اضطرابات فرط الحركة ونقص في الانتباه". وكشفت المقترحات أيضاً عن تشديد عقوبات الانتماء إلى العصابات، بغض النظر عن العمر، وتأسيس "سجل حمض نووي" لكلّ متورط في أي مخالفة قانونية، خصوصاً من مراهقي الضواحي.