"لبنان مأزوم"، هو أمر لا شكّ فيه. والأزمة التي يُحكى عنها هي في الواقع مجموع أزمات تختلف طبيعتها وحجمها، إحداها أزمة قطاع الصحة التي تُعَد من الأكثر حساسية وخطورة، إذ تطاول سلامة المواطن وحياته.
يبحث المواطن اللبناني عن نافذة أملٍ وسط الركام والأعاصير الاقتصادية والمعيشية، هو المعروف بحبّه لحياةٍ باتت على الرغم من تمسّكه بها خارجة عن سيطرته وفي دائرة الخطر الشديد، في ظلّ استمرار تفاقم الأزمة الصحية في البلاد. ومع مرور الوقت، يرتفع منسوب التشاؤم لدى اللبنانيين وسط انسداد الأفق، على الرغم من تشكيل حكومة جديدة برئاسة نجيب ميقاتي في العاشر من سبتمبر/ أيلول المنصرم بعد 13 شهراً على استقالة حكومة حسان دياب، إذ يؤكد معنيون في الملف الصحي أن لا حلول على المدى القريب، لأنّ الأزمة اتّسعت رقعتها كثيراً، وبات من الصعب ضبطها.
يتوقّف عضو لجنة الصحة النيابية فادي علامة في حديثه لـ"العربي الجديد" عند أبرز المشكلات التي يعاني منها القطاع الصحي في لبنان، بدءاً من "أزمة الدواء والمستلزمات الطبية، والفاتورة الاستشفائية المرتفعة، وربطاً ملف الدعم، ومن جهة ثانية النقص الهائل في الخدمة التمريضية لدى معظم المؤسسات الاستشفائية في القطاعَين العام والخاص وهجرة الأطباء وندرة بعض الاختصاصات". ويشير النائب علامة إلى أنّ "مسألة الدعم لم تُحلّ بعد، والأسعار كلها تبعاً للسوق السوداء، الأمر الذي يسبّب أزمة كبيرة في وقتٍ ما زالت فيه التعرفات هي نفسها منذ أكثر من عشرين عاماً، الأمر الذي يشكّل هاجساً للمستشفيات وينقل الكلفة العالية إلى المريض الذي بات يتحمّل الفرق بين السعر القديم المثبّت على سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد، وسعر الصرف في السوق السوداء (آخره نحو 18 ألف ليرة) في مشهدٍ فاقمته كذلك أزمة المحروقات، خصوصاً المازوت".
ويلفت علامة إلى أنّ "اجتماعات كثيرة حصلت، منها بين اللجنة ومصرف لبنان وجميع المعنيين ووزير الصحة العامة السابق حمد حسن، آخرها بهدف تحديد لائحة الأدوية المدعومة وغير المدعومة والأسعار، فكان قرار الوكلاء برفع الدعم عن الأدوية المسموح بيعها من دون وصفة طبية (OTC) أي اعتماد سعر السوق ناقصاً 20 في المائة للفترة الراهنة، وإبقاء الدعم على الأدوية المزمنة. لكنّ الإجراءات على خطّ مصرف لبنان والشركات المستوردة والوكلاء ومسألة الموافقات المسبقة والتدقيق بالمعاملات وغيرها تتطلب وقتاً، لذلك نشهد انقطاعاً من وقتٍ إلى آخر".
ويقول علامة إنّ "ثمّة بعض تحسّن في السوق، لكنّ المواطن اللبناني أو المريض والطبيب تعوّدوا أدوية البراند (ذات العلامة التجارية) ولا يريدون العمل بأدوية جينيريك (أدوية جنيسىة) أو دعم الصناعة المحلية. وهذا نمط تفكير يجب تغييره، فكلّ دول العالم تعتمد على الجينيريك بنسبة تراوح ما بين 60 و80 في المائة من أدويتها، مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، فيما العكس حاصل في لبنان حيث البراند 80 في المائة ويُستخدم في المستشفيات ويصفه الأطباء ويباع في الصيدليات، أمّا الجينيريك فـ20 في المائة".
ويتحدّث علامة عن "نقصٍ هائل في الخدمة التمريضية، ربطاً أولاً بقرار قسمٍ من العاملين البقاء في منازلهم بعدما أرهقتهم معركة كورونا وأضيفت إليها الأوضاع المالية السيئة، فصاروا أمام خيار البحث عن فرصة عملٍ في الخارج. وكثرٌ هم الذين غادروا إلى الخليج وأوروبا وكندا، وثمّة من ينتظر دوره. أمّا من بقيَ، فعدده قليل، وصار منهكاً نفسياً ومادياً".
وبالنسبة إلى علامة، فإنّ "الوضع كما هو المسار اليوم غير مطمئن، والمستشفيات تعمل بأقلّ من أربعين في المائة من قدرتها الاستيعابية، في ظل ارتفاع الأعباء التشغيلية والتكاليف وهجرة الممرضين والأطباء كذلك. حتى إنّ ثمّة اختصاصات صارت نادرة، مثل الطوارئ وجراحة الشرايين. وهذا أمر يؤثّر حتماً بجودة العلاج والعمل الجراحي، وتُضاف إلى ذلك أزمة الدواء والنقص المسجّل في السوق وكلفة المستلزمات العالية وعدم قدرة المواطن على التحمّل، في ظلّ الغلاء الذي يطاول كلّ القطاعات والخدمات والمواد وانخفاض القدرة الشرائية".
ولا يخفي علامة أنّ "أزمة كورونا وضعت ضغطاً قوياً على القطاع الصحي، لم يستطع لبنان بعد تخطّيه والخروج منه، في حين أنّ دولاً كثيرة استفادت من رزم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجهات المانحة، وحصلت على مساعدات لإعادة الحياة إلى القطاع وتطويره وإبقائه صامداً لما بعد مرحلة كوفيد-19. لكنّنا للأسف نتخبّط نتيجة السياسات، سواء الداخلية أو الخارجية".
وفي إطار "سكك الحل"، يتحدّث علامة عن قانون عملت عليه لجنة الصحة النيابية، متمنياً أن يبصر النور قريباً. وهو "ينصّ على إنشاء وكالة وطنية متخصصة بموضوع الدواء والمستلزمات الطبية والمتممات الغذائية والكواشف المخبرية، بالتالي تكون هيئة ناظمة غير مرتبطة بوزير أو آخر وتعتمد اصولاً وآليات معينة في التعيينات تقوم على الخبرات لدرس السوق المحلي وتكوين نظرة للمستقبل وتفعيل الصناعة الوطنية، ما من شأنه أيضاً خلق فرص عمل. كذلك تشرف على المختبر المركزي الذي هو غير مفعل منذ عشرين عاماً، للأسف، وتدرس كيفية الاستيراد والضوابط الواجب وضعها على الوكلاء. وبهذه الطريقة يمكن لجم الفوضى وتفادي مشكلات كثيرة نعاني منها اليوم، وهذه من القوانين الإصلاحية الأساسية لتنظيم القطاع".
ويشدّد علامة، وهو أيضاً عضو الشبكة البرلمانية في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، على "وجوب التزام الحكومة الأمن الصحي ووضعه كأولوية مثلما وعد رئيسها نجيب ميقاتي، وتعهّد بذلك. وحتى لو أنّ ثمّة نية لزيادة التعرفات حتى تحاكي الواقع والتضخم، فلا إمكانات للدولة إلا إذا فاوضت صندوق النقد الدولي وغيره وتمكّنت من وضع خطة عمل وانتظمت الدورة الاقتصادية، وإلا فإنّ واقعنا الصحي صعب جداً".
وفي جولةٍ لـ"العربي الجديد" على خمس صيدليات واقعة إلى الشمال من العاصمة بيروت، يمكن ملاحظة الرفوف الخالية من الأدوية، في حين أنّ المعروض يقتصر بغالبيته على مستحضرات تجميل وأدوية للبشرة والجسم وأجهزة طبية وما شابه.
تقول صاحبة إحدى الصيدليات، مفضلة عدم الكشف عن هويتها لـ"العربي الجديد" إنّ "الأزمة طالت كثيراً، ولم نعد نقوى على التحمّل، لا اقتصادياً فقط، بل كذلك نفسياً، نتيجة مشاهد الناس اليومية وهم يقصدون المكان بحثاً عن دواء وفي عيونهم نظرة تدرك جيداً أنّ طلبهم غير موجود، لكن يغرقون في قطرة أمل لعلّهم يجدون ما يبحثون عنه قبل أن يعودوا خائبين ويصعدوا إلى سياراتهم ليبدأوا جولة جديدة على الصيدليات".
وعند سؤال عدد من المواطنين عمّا إذا كانوا قد بدأوا يلحظون انفراجاً ما ويجدون أدويتهم في الصيدليات، أكدوا جميعهم أنّ الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة ما زالت غير متوافرة، وثمّة أدوية أخرى يعثرون عليها، بيد أنّ أسعارها تتفاوت بين صيدلية وأخرى، وأحياناً بفارقٍ كبيرٍ.
من جهتها، عادة نقابة أصحاب المستشفيات في لبنان إلى رفع الصوت مجدداً، مشيرة إلى أنّه بعد رفع الدعم عن مادة المازوت ارتفعت تكلفة الطاقة لكلّ مريض في المستشفى ما لا يقلّ عن 650 ألف ليرة لبنانية (نحو 425 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي ونحو 35 دولاراً بحسب آخر سعر صرف في السوق السوداء) يومياً، أي سبعة أضعاف التعرفة الرسمية. وأوضحت النقابة أنّ "المستشفيات الخاصة مجموعة تحتاج إلى 130 مليون ليتر من مادة المازوت سنوياً، ما يجعل كلفة تشغيل المولدات 1500 مليار ليرة لبنانية (نحو 982 مليون دولار، بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 83 مليون دولار بحسب آخر سعر صرف في السوق السوداء) وهذا المبلغ يتجاوز مجموع ما تستوفيه المستشفيات سنوياً من الجهات الضامنة الرسمية كافة، بما فيها الضمان الاجتماعي ووزارة الصحة والطبابة العسكرية والقوى الأمنية وتعاونية موظفي الدولة". وأشارت النقابة إلى أنّ "من الواضح أنّ المستشفيات لا يمكنها تحمّل هذا العبء، وهو سينعكس على كلفة الطبابة بشكل دراماتيكي، والمريض في المحصلة النهائية هو المتضرر الأول، وبالتالي لا بدّ من دعم مادة المازوت المخصصة للمستشفيات، إذ يكفي القطاع الاستشفائي ما أصابه من مشاكل خلال السنتَين الأخيرتَين".
في سياق متصل، يقول عضو الهيئة التأسيسية لمجلس "أطباء القمصان البيض" هادي مراد لـ"العربي الجديد" إنّ "الحلول لم توضع على مسارها الصحيح، والنظام مخروق في مكانٍ ما وغير قادر على انتشال المواطن من أزماته، ولا حتى الحفاظ على أغلى ما يملك، وهو صحّته"، مشيراً إلى أنّ "انقطاع الأدوية أمر خطير ومخيف، والمواطن فاقد الثقة بالدولة، وبدأ يبحث عن منافذ أخرى، منها شراء الأدوية من تركيا ودول أخرى، أو تأمينها عبر المغتربين. كذلك ثمّة مبادرات فردية كثيرة ساعدت المرضى على تأمين أدويتهم". يضيف مراد أنّ "القطاع يشهد فوضى عارمة، وجزء أساسي من ذلك بسبب مسألة الدعم التي لم تُحلّ، إذ إنّ كلّ الأدوية والمستلزمات والمعدات المدعومة، هي المفقودة وتُهدر في التهريب، ورأينا عندما رُفع الدعم عن المحروقات كيف خفّت الأزمة وصار البنزين أكثر توافراً".
ويتابع مراد قائلاً إنّ "المستشفيات ما زالت تعاني من نقصٍ هائل في المعدات الطبية والمستلزمات والكواشف المخبرية التي تهرّب كلّها لكونها مدعومة، وهي تلجأ إلى الدولار النقدي (ما يُعرَف بالدولار الفريش) لشرائها، وتبقى المعاناة الأكبر على صعيد مرضى السرطان". ويلفت مراد إلى أنّه "نحن في أكتوبر/ تشرين الأول شهر التوعية العالمي على مرض سرطان الثدي، في حين أنّ الدواء مقطوع بالكامل في لبنان، وحتى المراكز المعنية تطلب من المريض تأمينه من وزارة الصحة أو مصدر آخر، وهي عاجزة عن ذلك". ويكمل مراد أنّ "أكثر من 50 ألف مريض بالسرطان حياتهم بخطر والدولة غائبة، فيما نعمد إلى مبادرات، وثمّة جهات كثيرة تساعد في تأمين الأدوية، بيد أنّ هذا لا يكفي، لأنّ المطلوب تدخّل على مستوى الدولة المسؤولة عن شعبها". من جهة أخرى، يتوقف مراد عند مشكلة ترتبط بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إذ إنّه "وسط هذا الغلاء الفاحش والفواتير الاستشفائية المرتفعة، لم يعد الضمان يغطّي إلا 10 في المائة كحدّ أقصى من الفاتورة والفارق يتحمّله المواطن غير القادر على ذلك أصلاً".