بينما يصطف عشرات الآلاف من خريجي الصين في طوابير يومية بحثاً عن فرصة عمل، يجد آخرون ضالتهم فيما يعرف بـ"العمل المرن"، ويشمل الانضمام إلى منصات البيع الإلكتروني، وخدمات توصيل الطعام التي يجني موظفوها مردوداً مالياً جيداً.
في كلا الخيارين لا يحتاج الموظف إلى شهادات عليا، وإنما تنزيل أحد التطبيقات على هاتفه المحمول ومن ثم مباشرة العمل. وحسب أرقام حديثة، يصل متوسط أجور العمل المرن في الصين إلى 20 ألف يوان (نحو ثلاثة آلاف دولار) في الشهر الواحد.
وبعد انتشار هذه الأرقام عبر منصات التواصل الاجتماعي الصينية، تساءل نشطاء عن جدوى قضاء سنوات عدة في الجامعة للحصول على شهادة لا تساعد حاملها في الحصول على وظيفة، في ظل المنافسة الشديدة القائمة في سوق العمل، في حين أنه يمكنهم الانضمام إلى قطاع العمل المرن، وجني الأموال من دون أي شهادات أكاديمية.
تقول تشين شي، التي تخرجت حديثاً من جامعة شينزن للعلوم والتكنولوجيا، لـ"العربي الجديد": "قضيت العديد من الشهور في طوابير طويلة للبحث عن عمل، وبعد أن فقدت الأمل قررت أن أدشن صفحتي الخاصة على منصة البيع الإلكتروني، وحالياً أجني في الأسبوع الواحد ما كان يمكن أن أحصل عليه في شهر لو عثرت على وظيفة. في بعض الأحيان أشعر أن دراستي الأكاديمية كانت مضيعة للوقت، بالرغم من أن تخصصي يواكب متطلبات سوق العمل في القطاع التكنولوجي، ومع ذلك عانيت كثيراً في البحث عن وظيفة، فهناك منافسة شديدة، فضلاً عن اعتبارات أخرى لها علاقة بأرباب العمل".
وتلفت إلى أن وظيفتها الحالية لا تحتاج سوى إلى بعض الأدوات الخاصة باستديو التصوير، مثل إضاءة مناسبة وحامل كاميرا، وهي تختص ببيع الأطقم الرياضية المستوردة، وأنها تبيع في اليوم الواحد نحو 120 طقماً بتكلفة تصل إلى 230 دولاراً للطقم الواحد، وتأخذ نسبة من الأرباح من المتجر.
بدوره، يقول وانغ لي، وهو شاب يقيم في العاصمة بكين، إنه لم يكمل تعليمه، وواجه عقبات كثيرة في العثور على عمل، قبل أن يقرر شراء دراجة نارية، ويبدأ بتوصيل طلبات الطعام. ويضيف لـ"العربي الجديد": "كنت في بداية الأمر أشعر بالخجل، وألجأ إلى تغطية وجهي بقناع، ولكن حين تعرّفت على زملاء آخرين في الوظيفة نفسها وجدت أنهم يحملون شهادات جامعية، ويتمتعون بمظهر حسن، ولا يخجلون من عملهم، فقررت ممارسة وظيفتي من دون أي تحفظ، حتى إنني أخبرت أهلي وأصدقائي بطبيعة عملي بعد أن كنت أبقيه سراً".
يتابع: "بعد ثلاث سنوات مع العمل، أستعد للزواج في مطلع العام المقبل، فقد تمكنت من ادخار الأموال اللازمة، كما أخطط لشراء سيارة صغيرة، لكني لست على يقين إذا ما كنت سأستمر في المهنة نفسها، وربما أسعى إلى تأسيس مشروع صغير مع زوجتي، خاصة أن هذه الوظيفة لا تناسب من لديهم أطفال لأنها تستنزف الوقت والجهد، لكنها جيدة في مرحلة الشباب".
وتقول الباحثة الاجتماعية فانغ شيه، لـ"العربي الجديد"، إن "الوظائف المرنة باتت تشكل تهديداً حقيقياً للعمل المنتظم داخل دوائر ومؤسسات القطاع العام والخاص، وهناك إقبال ملحوظ من الشباب على بيئة العمل المرن بسبب فرص التوظيف المحدودة في القطاعات الأخرى، واللافت أن معظم المنجذبين إلى هذا القطاع من حملة الشهادات العليا، وهذا يشير إلى أزمة كبيرة قد يواجهها سوق العمل في المستقبل بسبب انسحاب الكفاءات، أو عزوفهم عن العمل في مجالات تخصصهم".
وتضيف: "يستقطب البيع الإلكتروني عشرات الآلاف من الخريجين كل عام نظراً لسهولة مباشرة العمل، ومواكبة المهنة للعصر الرقمي، ومهنة توصيل الطعام أصبحت خلال السنوات الأخيرة واحدة من أهم المهن، مع تحول الناس إلى إيقاع الحياة السريع الذي فرضته النهضة الصناعية، كما لعبت دوراً أساسياً في سياسة (صفر كوفيد) الحكومية، إذ ساهمت في إحكام القيود أثناء الجائحة حين منعت السلطات الحركة مع استثناء موظفي التوصيل من أجل مد السكان بالاحتياجات الأساسية، وكان يُنظر إلى موظفي التوصيل كأبطال في معركة التصدي للوباء، جنباً إلى جنب مع الكوادر الصحية، كما أشاد الرئيس شي جين بينغ، بدورهم الكبير في مساعدة السلطات، وكل هذا يفسر سبب الإقبال الشديد على مهنة توصيل الطعام، حتى في صفوف الإناث".
ويحث خبراء التوظيف الصينيون الخريجين على التخطيط لمسيرتهم المهنية عبر العمل على زيادة قدراتهم التنافسية، كما يدعون إلى مزيد من السياسات التفضيلية لتوسيع سوق العمل شديد التنافسية في البلاد، وذلك بعدما بلغ معدل البطالة 5.5 في المائة خلال العام الماضي، بزيادة 0.1 نقطة مئوية عن العام السابق.