تصنيع الأدوية محلياً يمثّل حلاً لمشكلات كثيرة، لا سيّما في ما يتعلّق بالعلاجات الخاصة بالأمراض المزمنة والعضالية. ويُسجَّل في العراق أخيراً سعي إلى مثل هذا الحلّ.
أزمات عدّة نجمت عن الارتفاع المتواصل في أعداد المصابين بالأمراض السرطانية في العراق، في خلال السنوات الخمس الأخيرة، وقد ارتبطت بشحّ أو فقدان الأدوية الخاصة بهم، فضلاً عن تراجع مستوى الرعاية المقدّمة لهم في المستشفيات الحكومية. وقد دفع ذلك السلطات في بغداد إلى التفكير بحلول جديدة، من بينها محاولة تصنيع عدد من العقاقير الخاصة بمرضى السرطان، باختلاف أنواعه، محلياً، الأمر الذي يسهّل الحصول عليه بأسعار أقلّ وبطريقة مباشرة. وتتصدّر البصرة (أقصى الجنوب) والفلوجة (غرب) وبغداد قائمة المدن العراقية حيث تُسجَّل أعداد الإصابات الأكبر في البلاد، ويعزو خبراء ذلك إلى التلوّث البيئي المرتبط بالأسلحة المحرّمة أو عمليات استخراج النفط والمخلفات الناجمة عنه.
في العام الماضي، نُظّمت تظاهرات في بغداد شارك فيها مرضى من محافظات مختلفة، طالبوا الحكومة بتوفير الدواء لهم وتحسين العناية بهم في المستشفيات. ولا تتوفّر إحصاءات دقيقة حول أعداد المصابين بالسرطان في العراق، لكنّ أرقاماً رسميّة تؤكّد أنّ معدّل الإصابة بالمرض يبلغ 2500 حالة جديدة سنوياً، 20 في المائة منها سرطان ثدي. وتتسبّب هذه الأعداد الإضافية في شحّ الأدوية بالمستشفيات مع توفّرها في الصيدليات الخاصة بأسعار تفوق قدرة المرضى.
وفي الأسبوع الماضي، كشفت شركة "سامراء" للصناعات الدوائية عن بدء مفاوضات مع شركات عالمية لإنتاج بعض أدوية الأمراض السرطانية في داخل العراق. و"سامراء" هي الذراع الرئيسة لصناعة الأدوية في العراق التي كانت قبل الغزو الأميركي للبلاد في عام 2003 توفّر الحاجة الفعلية للمستشفيات الحكومية مع أكثر من 70 في المائة من المطلوب في عموم المدن العراقية. وقد أفاد مدير عام الشركة خالد محيي في بيان بأنّ الشركة تتفاوض حالياً مع شركات عالمية لإنتاج مستلزمات وأدوية خاصة بالأمراض السرطانية في العراق، مضيفاً أنّها سوف تناسب بالتالي مدخول المواطن العراقي وتنافس الأدوية المستوردة لجهة الجودة، إذ إنّ عملية تصنيعها سوف تخضع إلى إجراءات ودقيقة جداً وتأتي منافسة في الأسعار. وأشار محيي إلى أنّ فكرة إنتاج أدوية الأمراض السرطانية أتت نتيجة استبيانات ودراسات أُعدّت بالتعاون مع وزارة الصحة العراقية وعلى أساس حاجة السوق الماسة لهذا النوع من العلاجات المستوردة.
ويعاني مرضى السرطان من ارتفاع أسعار الأدوية الخاصة بعلاجاتهم، ومن عدم قدرتهم على مواجهة تداعيات ذلك الاقتصادية، فضلاً عن الآثار الصحية. وتصل تكاليف بعض الأدوية إلى نحو ألف دولار أميركي لحقنة واحدة من العلاج الكيميائي، من دون احتساب تكاليف جرعات العلاج بالأشعة والأدوية المهدّئة للألم. كذلك لا تتوفّر في العراق مستشفيات كثيرة متخصصة في أمراض السرطان، ولم يُسجّل إنشاء أيّ مستشفى جديد في خلال الأعوام التسعة عشر الماضية، وكلّ ما يتوفّر يأتي من ضمن البنى التحتية للمستشفيات العراقية المشيّد بعضها منذ 50 عاماً.
وحول خطوة التصنيع المحلي، يقول عضو نقابة الأطباء العراقيين محمد ناجي لـ"العربي الجديد" إنّها "أتت متأخّرة. لكنّه من الأفضل أن تكون متأخّرة من ألا تتحقّق بالفعل". وتساءل عن "إمكانية تحقيق ذلك في ظلّ مافيات بقطاع استيراد الأدوية، كون ثروات عظيمة جُمعت بفعل هذه التجارة، وسوف يتضرر كثيرون من جرّاء تصنيع جزء من هذه الأدوية محلياً". ويشدّد ناجي على أنّ "الحكومة العراقية مطالبة فعلياً بحلّ هذا الملف الأخلاقي الخطر، سواء صنّعت الدواء في الداخل أم استوردته. فالقانون والدستور كفلا للمرضى العلاج على نفقة الدولة، لكنّ ما يحصل أنّ الفساد بدأ يأكل من أدوية الضحايا. حتّى الدواء المدعوم الذي من المفترض أنّه يباع بسعر رمزي في المستشفيات، تجده في خارجها بعد تسريبه، ويُباع بالتالي في السوق السوداء".
في سياق متصل، يقول عضو منظمة محاربة السرطان في البصرة سعد الفتلاوي لـ"العربي الجديد" إن "العراق في حاجة إلى ما لا يقلّ عن 10 مستشفيات تخصصية في الأمراض السرطانية لفكّ الاختناق الحاصل، إذ ثمّة معاناة كبيرة في ما يتعلّق بتوفّر أسرّة في المستشفيات للمرضى". يضيف الفتلاوي: "سبق أن طالبنا بتشكيل لجنة في إطار وزارة الصحة لمواجهة تصاعد أعداد ضحايا المرض وتقديم رعاية لهم، لكنّنا لم نحصل حتى الآن إلا على وعود من حكومة (مصطفى) الكاظمي ومن قبلها الحكومات الأخرى". ويطالب هيئة النزاهة والقضاء بفتح "ملف التلاعب بالأدوية وكذلك إهمال مرضى السرطان والكشف عن مصير مشاريع بناء مستشفيات متخصّصة لهم".
وتخصّص الحكومة العراقية موازنة سنوية لاستيراد أنواع مختلفة من الأدوية بهدف توزيعها على المستشفيات الحكومية والمراكز التابعة لها، لكنّ مرضى السرطان لا يحصلون على أكثر من 30 في المائة من احتياجاتهم الفعلية فيما يشترون المتبقّي على نفقاتهم الخاصة. أمينة عبيد (56 عاماً) من بين هؤلاء وهي مصابة بسرطان الرحم، تعبّر لـ"العربي الجديد" عن أملها بـ"تصنيع أدوية السرطان في العراق، وبأن تكون في متناول المرضى". تضيف عبيد: "أشتري شهرياً أدوية بنحو 400 دولار أميركي، وأحمد لله إذ لديّ راتبي لأنفقه على العلاج. لكنّني أرى مريضات كثيرات يصلنَ إلى المستشفى غير قادرات على شراء الدواء وقد استسلمنَ لفكرة أنّه لا جدوى من العلاج". وتشير عبيد إلى أنّه "كان من الممكن إنقاذ مئات المرضى الذين يموتون شهرياً بسبب السرطان لو توقّف الفساد والسرقة ولو كانت لدينا حكومات حقيقية"، مطالبة وزارة الصحة بأن "تتعامل مع الموضوع مع فكرة أنّ ثمّة أشخاصاً لا يستطيعون النوم بسبب الألم وأنّ هذه الأدوية هي ملك لهم، وأنّ بيدها إمكانية حجبها عنهم أو تزويدهم بها".