شهدت منطقة "تاحمامت" بولاية باتنة (شرقي الجزائر)، عراكاً بين شباب استدعى تدخل كبار المنطقة لفضّ النزاع عرفياً الذي كاد أن يتحول كارثة.
وعادة ما ينجح الوجهاء في تهدئة النفوس وحل الأزمات بين الجزائريين قبل أن تتطور إلى مسارات أخرى، وغالبا ما تنتهي القضايا الاجتماعية والمشاحنات اليومية إلى تغليب العُرف قبل القانون، ما يفرض مكانة الهيئات العرفية في تفكيك الصراعات بين الأفراد والعائلات.
ومازال الاحتكام إلى العرف قائماً في مناطق جزائرية عدة، وتشرف مؤسسات تضم الوجهاء والأعيان وكبار العائلات على تطبيقه في المجتمع المحلي، ويلاحظ هذا جلياً في باتنة، وخنشلة، وأم البواقي، في الشرق، وفي منطقة القبائل يطلق عليه اسم "ثاجْمَاعَتْ" والتي تعني الجماعة باللغة الأمازيغية، وتحتكم له العائلات الكبرى في تلك المناطق باعتباره سلطة تقليدية تزاول نشاطها كجهاز قضائي مستقل عن مؤسسات القضاء الحكومية.
وحافظت هذه المناطق على تلك الأعراف منذ أكثر من ثلاثة قرون، وباتت جزءا من القوانين اليومية لتسيير شؤونها على الرغم من تطور الحياة والحاجات الاجتماعية، فيتم اللجوء إلى المؤسسات العرفية لإنهاء النزاعات بدلاً من الذهاب إلى المحكمة.
ونظم مركز البحوث القانونية والقضائية التابع لوزارة العدل الجزائرية، قبل أيام، مؤتمراً حول "العرف وأثره في تطوير التشريع"، شارك فيه قضاة وخبراء لمناقشة المفهوم المجتمعي الذي سنته مؤسسات عرفية محلية قبل عقود كأحد مصادر القاعدة القانونية، وكيفية الاستفادة منه على الصعيد القضائي.
وتقول الباحثة في علم الأنثروبولوجيا بجامعة باتنة، سمية لعريبي، لـ"العربي الجديد"، إن "القوانين العرفية لها من القيمة الاجتماعية ما ينظم شؤون الحياة، ويسهم في بناء جو ملائم للتعايش. لكن منظومة العرف تظل نسبية، وتختلف من مجتمع إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، ففي منطقة الأوراس والقبائل على سبيل المثال، العرف الذي تحكم به الجماعة لا يقتصر على العقوبات، بل يحمي الفرد وممتلكاته، ويضبط الأحوال الشخصية من زواج وإرث وغيرها، ويتدخل في استغلال الثروة المائية، وغيرها، ومن يخالف القرارات يعاقبه قانون الجماعة".
وأشارت لعريبي إلى أنه "لا يحق لأي فرد أن يخوض متابعة قضائية مهما كان نوعها أو طرفها من دون علم الجماعة، وقبل الاحتكام إلى القضاء تجب دراسة القضية في اجتماع عرفي، وتوجيهها لاحقاً إلى القضاء في حالة عدم الوصول إلى حل. منظومة (العزّابة) على سبيل المثال، في منطقة بني مزاب بولاية غرداية (جنوب)، هي من الأعراف التي يحتكم إليها المجتمع، والعرف هو أعلى سلطة في المنطقة، وتصدر أحكام في الجرائم والجنايات والمعاملات وفقا للفقه الإسلامي، وهناك قوانين وقواعد مدونة، تسمى (اتفاقات وادي ميزاب). إنه نظام اجتماعي متكامل يقوم بالإشراف على شؤون الحياة لسكان المنطقة".
وعلى الرغم من التحولات الكبيرة التي عرفها المجتمع الجزائري، إلا أن الأعراف التقليدية ظلت كعوامل مساعدة في حل الخصومات، وإقرار النظام المجتمعي، ولهذا عمدت السلطات إلى وضع إطار قانوني يتم بموجبه الاعتماد على بعض الأعراف في حل مشكلات قضائية، من خلال اعتماد وجهاء بعض المناطق، مثل منطقة القبائل ومناطق الطوارق، كوسطاء معتمدين لدى المحاكم التي تستعين بهم في بعض القضايا، وفي إجراء الصلح وفقا للأعراف المحلية دون الحاجة إلى إطالة المسارات القضائية للقضايا.
ولعب العرف دوراً في تنظيم المجتمعات المحلية في الجزائر خلال فترة الاستعمار، وفي أعقاب الاستقلال قبل تشكل مؤسسات الدولة، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية التي تعتمد على الشريعة الإسلامية، وكانت المؤسسات العرفية لعقود تضع القوانين الناظمة لحياة الناس.
تؤكد الباحثة في القانون بجامعة الجزائر، سعيدة عوامر، أن مؤسسة "العرف" لها قوة إلزامية ذاتية معترف بها كسلطة عامة، وأن العرف له دور أساسي كمصدر رسمي احتياطي للقانون، ويلعب دوراً مكملاً للتشريع، وتضيف لـ"العربي الجديد": "إذا وجد نقص في التشريع، فيمكن أن يلجأ الناس إلى النظام العرفي لحلّ أي نزاع قانوني، والعرف الشعبي مساند للتشريع، فغالباً ما تكون هناك مواضيع يمكن الإحالة فيها إلى العرف".
بيد أن بعض الأعراف المجتمعية لم تعد واجبة الاحترام في بعض المجتمعات المحلية بسبب التطور الكبير للمجتمع من جهة، وسطوة القوانين من جهة ثانية، ومن بينها تحديد مهور الزواج بمقدار معين حسب طبيعة الزوجة، سواء كانت بكرا أو ثيّبا، كما كان العرف يفرض على كل من يتجاوز هذا أن تأخذ منه الجماعة، أو مجلس الأعيان، مقدار الصداق مع غرامة مالية مقدرة، لكن هذه الأعراف لم تعد محترمة بشكل صارم في الوقت الحالي.