لولا حاجة أغنامنا قليلة العدد للمرعى، لما سمح لنا الكبار ذلك الموسم بدخول المزارع بعد الحصاد، مع تشديدهم التحذيرات، وتصديرهم ذلك الخوف الذي كنا في طفولتنا لا نرى له مبرراً لحرماننا من أن نسرح بأغنامنا بعد العودة من المدرسة. انتظمت في ذلك الموسم البعيد، قبل خمسة عقود، حملة إبادة كبيرة للفئران، شارك فيها مع وافدين في زيّ خاص، كبار رجال القرية، وكلّ من فرغ من حصاد ما تبقى من محصوله، وهو ناقم على الفئران بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدها.
حذرونا من لمس الثمار المتساقطة، ومن الجلوس في الظلال التي تنتشر فيها جيف الفئران والحيوانات الصغيرة والطيور. فالسموم الموضوعة في مداخل الجحور والمخابئ لا تفرّق بين الفأر المستهدف بالحملة، والأرنب الصغير الذي لم يجد من يحذره، والطيور الملتقطة للحبوب المسمومة.
بعد ذلك بعامين، أو أكثر، شهدنا حملة أخرى لإبادة الجراد الصحراوي، استخدمت فيها طائرات الرش، وعلى الرغم من شغفنا بالطائرات وأزيزها ومتابعة ما تنفثه، فقد كنا مجبرين على البقاء داخل الغرف لساعات كلّ يوم، ونحن نحاول معرفة من أين يأتي الجراد؟ وكيف تتكاثر الفئران بالقدر الذي تتهدد معه حياة الناس؟ ولاحقاً، تساءلنا إن كان للأمر علاقة بانتقال الإنسان من مرحلة جمع الغذاء إلى إنتاجه، وزيادة المعرفة وتطور أدوات وأساليب الإنتاج؟
يقول الخبير جلال عثمان، من شعبة الكيماويات الزراعية: "نشأت العلاقة بين البيئة والغذاء والآفات قبل 12 ألف عام، عندما بدأ الإنسان يمارس نشاطه الزراعي لمقابلة الاحتياجات الغذائية للنمو المتزايد لسكان الأرض، وبذلك تحول النظام البيئي الطبيعي الذي اتسم بالتنوّع والثبات والتعقيد، إلى النظام الزراعي الإيكولوجي الذي اتسم بالمماثلة وعدم الثبات والبساطة".
المجاعات التي حدثت في فترات متباعدة من حياة البساطة تلك فُسّرت باعتبارها "فجوات" يؤدي إليها الخلل البيئي، وتقلص التنوّع الأحيائي، وظهور الآفات المختلفة. والشاهد أنّه مع زيادة الوعي البيئي وازدهار العلوم، تمكّن العالم من تطوير أساليب جديدة للوقاية والمكافحة تقلل من سلبيات المكافحة في الماضي. وتبقى المعادلة قائمة: إما الوفرة واحتمالات التلوّث، وإما الشح في الإنتاج مع ضمانات سلامة الغذاء. ويظلّ الجدل قائماً مثلما كان حول قضايا البيئة والغذاء والآفات، وإمكانات توفير الغذاء والمحافظة على البيئة، في ذات الوقت الذي نشهد فيه متغيرات مناخية هائلة، وآفات وجوائح تحصد البشر مثلما كانت تحصد الحيوات الأخرى والزرع.
إذاً، يقتضي الأمر أن نقف على فهم جديد متجدّد لدور وقاية المحاصيل ومكافحة الآفات في توفير الغذاء، من خلال تحليل التكلفة والمنفعة، مع استيعاب عميق لأولويات الدول العظمى التي تمتلك 80 في المائة من ثروات العالم، مقارنة بأولويات الدول النامية في ما يتعلق بمسائل الغذاء والبيئة، واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية بصورة مثلى.
(متخصص في شؤون البيئة)