الغزيون المحاصرون... عشرات الآلاف في مناطق الشمال بلا طعام

07 يناير 2024
يأكلون أي طعام متوفر بسبب الجوع (مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -

انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي من مناطق عدة في وسط مدينة غزة وشمالي القطاع بعد حصار دام قرابة الشهرين، ارتكب خلالها مجازر وجرائم إبادة جماعية بحق المدنيين، فضلاً عن إعدامات ميدانية طاولت بعض العائلات لمجرد خروج أفراد منها من المنازل، أو محاولتهم النزوح، ليكتشف الأهالي عشرات الجثامين الملقاة في الشوارع، والتي كان الكثير منها متحللاً.
لكن تلك المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال لا تزال منقطعة تماماً عن التواصل الجغرافي مع بقية مناطق القطاع، خصوصاً المناطق الجنوبية والوسطى، كما لا يسمح الاحتلال بوصول أية إمدادات غذائية أو مساعدات إغاثية إليها، ويبقي الاحتلال آلياته العسكرية في الأجزاء الشرقية من مدينة غزة ومحافظة الشمال، وعلى حاجز "نيتساريم" الذي يفصل قطاع غزة إلى جزأين، ما يجعل الأمر في الواقع انسحابا من المناطق والأحياء الداخلية وإبقاءها تحت الحصار.
غادرت عائلة علي منزلها الواقع في حي الجلاء بوسط مدينة غزة بعد أن أجبرهم الاحتلال على مغادرة المنطقة، وعاشوا في  أحد المحال الفارغة في منطقة مجاورة لعدة أيام، ثم عادوا بعد التأكد من انسحاب الجيش الإسرائيلي من منطقتهم، وحين عودتهم شاهدوا العديد من الجثث ملقاة على الأرض، وتحلل بعضها، كما كانت آثار الدماء في كل مكان.

يمنع الاحتلال وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة المحاصرة

يقول علي: "عدنا بعد انسحاب جيش الاحتلال من المنطقة، لكن ما زال الخروج من المنزل خطرا، لكننا مضطرون للخروج من أجل تأمين احتياجاتنا اليومية. تأمين الطعام والشراب غاية في الصعوبة، ونعمل على تأمين حاجة الأطفال والمسنين في المقام الأول، إذ تسير تعبئة المياه عبر طوابير طويلة، ونبحث بشكل متواصل عن الأخشاب أو الأشجار التي دمرها القصف لاستخدامها في التدفئة والطبخ".
يوضح علي لـ"العربي الجديد": "لم نحصل على أية مساعدات طوال الفترة الأخيرة، لكن جرى عبر متطوعين جمع أرقام هويات أفراد العائلات المتبقين في مدينة غزة على أمل حصول أي تغيير يسمح بدخول المساعدات إلى المنطقة التي لم تصلها أية مساعدات منذ بداية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. عدد قليل من الناس قادرون على تدبير الطعام، والبعض يبحثون بين ركام البيوت المتهدمة عن أي شيء صالح للأكل، والخدمات الطبية غير متوفرة، ولا توجد أدوية، لدينا فقط بعض مسكنات الآلام في المنزل، ونقوم بشحن الهواتف عبر ألواح الطاقة الشمسية التي تبقت لدى بعض العائلات، وهي ضرورية لبقاء الموجودين في منازلهم على تواصل مع أفراد عائلاتهم الذين نزحوا إلى الجنوب، أو الموجودين خارج قطاع غزة".

توفير الخبز مهمة صعبة في شمالي غزة (محمد الحجار)
توفير الخبز مهمة صعبة في شمالي غزة (محمد الحجار)

يتابع: "عدد قليل من الأشخاص لم يغادروا الحي بعد أن ارتكب الاحتلال عدة مجازر فيه، وكذا في الأحياء المجاورة مثل حي النصر وحي الشيخ رضوان، ويحاول الناس مساعدة بعضهم لتوفير الطعام وبعض الخدمات، ولا وسيلة للعلاج سوى الذهاب إلى مجمع الشفاء الطبي، والذي نزح إليه المئات حتى أصبح مكتظاً، كما يوجد مكان للنزوح في مراكز إيواء النازحين بمدارس وكالة أونروا، والجميع يعانون من الجوع والخوف".
ويمنع الاحتلال وصول المساعدات الإنسانية إلى تلك المناطق المحاصرة، حيث يعتبر شح الدقيق ومياه الشرب كارثيا، ما يدفع الغزيين إلى شرب مياه غير صالحة للشرب تسبب لهم أمراضاً معوية مثل المغص والإسهال، إذ لا يوجد لها بديل.
نزح أحمد الغول (40 سنة) إلى مجمع الشفاء الطبي بعد أن دمر القصف منزله في حي الشيخ رضوان، وارتكب الاحتلال مجزرة بحق عائلته. ويقول إن "معظم النازحين في مدينة غزة ومناطق شمالي القطاع هم من النساء والأطفال. أحاول حالياً الوصول إلى منطقة الصفطاوي، ثم إلى مخيم جباليا مشياً على الأقدام في محاولة للوصول إلى منزل عائلة زوجتي التي بقيت في المخيم، والعمل على نقلهم إلى مجمع الشفاء لأن والد زوجتي من أصحاب الأمراض المزمنة".

حجم الدمار غير مسبوق في غزة (محمد الحجار)
حجم الدمار غير مسبوق في غزة (محمد الحجار)

يضيف الغول لـ"العربي الجديد": "تواصلت عدد من عائلات النازحين في مدينة غزة مع وكالة أونروا، ومع عدد من المنظمات، لطلب إدخال مساعدات، لكن شيئاً لم يصل حتى الآن، والجميع بانتظار أن يتم إعلان هدنة قريبة حتى يمكن إدخال شاحنات مساعدات إلى المنطقة، فغالبية السكان ينامون جائعين، والغالبية لا يأكلون إلا أقل القليل لتأمين الطعام لأطفالهم. بعد الانسحاب الإسرائيلي بدأت العائلات تساند بعضها في توفير بعض الطعام، إذ كانت هناك عائلات تعيش على أوراق الأشجار مع الخبز الجاف، وبعض الناس اصطادت الحمام والعصافير لذبحها وأكلها، والكثير من الناس تناولوا خبزاً يظهر عليه العفن. بعض المناطق يمكننا حالياً الحركة فيها، ونتطلع أن يدخلوا إلينا المساعدات بأي شكل من الأشكال حتى لا ندخل في مجاعة كبيرة".
وتشير بيانات وكالة "أونروا" في قطاع غزة إلى أنه حتى الخامس من يناير/ كانون الثاني، كان ما يقرب من 1,4 مليون نازح يلتجئون في 155 منشأة تابعة للوكالة في محافظات قطاع غزة الخمس، بما في ذلك 160 ألف نازح في الشمال ومدينة غزة، وأن نحو نصف مليون نازح آخرين قريبون من تلك المنشآت، ويحصلون على المساعدات، بينما لا يمكن إيصال المساعدات إلى شمالي القطاع ومدينة غزة.
وأدى العدوان الإسرائيلي إلى تهجير قسري لنحو 90 في المائة من سكان قطاع غزة بحسب وكالة "أونروا"، في حين أوضحت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، في بيان، انتشار سور التغذية مع دخول أقل من 200 شاحنة مساعدات إلى القطاع يومياً، وهي كميات أقل من نصف ما كان يصل قبل بدء الحرب. وتؤكد "يونيسف" عرقلة توزيع المساعدات بسبب استمرار القصف الإسرائيلي، وأن أوضاع الأطفال في مدينة غزة وشمالي القطاع تعد الأصعب، وأنها من ضمن المنظمات التي تعجز عن التواصل مع تلك المناطق المحاصرة، لكن تقييم الحالة يؤكد أن أعداد الأطفال والنساء هو الأكبر في المنطقة.
وكشفت "يونيسف" في مسح أجرته خلال العدوان أن 90 في المائة من الأطفال دون سن الثانية يتناولون اثنتين أو أقل من المجموعات الغذائية الخمس الأساسية يومياً، وإن ربع النساء الحوامل يتناولن مجموعة غذائية واحدة فقط في اليوم، وإن حالات الإسهال بين الأطفال دون سن الخامسة ارتفعت من 48 إلى 71 ألفاً، وهو مؤشر واضح على سوء التغذية.

ويعتمد العديد من الغزيين في منطقة مدينة غزة وشمالي القطاع على تناول مياه الأرز الساخنة مع بعض التوابل المتبقية في المنطقة بعد أن عثروا على كميات من الأرز داخل أحد مراكز توزيع المساعدات، فضلاً عن بعض المخزونات داخل منازلهم، وتقوم العائلات بإعداد الأرز مع المياه لصنع كميات كبيرة من الطعام تكفي لأكبر عدد ممكن.
يقول سامح أبو براشيم (34 سنة) لـ"العربي الجديد": "من حسن الحظ أن الأرز من بين المواد الغذائية التي تستطيع الصمود في بيئة تخزين، وهو طعامنا الوحيد تقريباً في الوقت الحالي، ونحاول التكاتف من أجل إعداد وجبات طعام لعدد من العائلات التي لم تغادر الحي، إذ يجري يومياً إعداد قدر من الغذاء يكفي لإطعام مئات الأشخاص المتبقين في المنطقة. بعد انسحاب جيش الاحتلال، جمعنا كميات من الدقيق المتوفر، وكان رجال ونساء يقومون يومياً بإعداد الخبز، لكن سرعان ما نفد الدقيق بسبب العدد الكبير للناس الذين يكافحون الجوع، فكانت الفكرة الأنسب في ظل النقص الحاد في المواد الغذائية هي طهو الأرز بالماء". 
يضيف: "كنا نستخدم الدقيق في إعداد الخبز من دون بيض أو خميرة أو أي من لوازم الإعداد، فالناس كانت جائعة، وتريد تناول أي شيء، ولما نفد الدقيق، تحولنا إلى الأرز، ونقوم بإعداده بأي نوع من التوابل. حتى لو كان مذاقه غريباً عما اعتدنا عليه في السابق، لكننا سنأكله، فليس لدينا خيارات، وفي بعض الأحيان نشعر أنه لذيذ، ربما لأنه الطعام الوحيد المتوفر، فعدد كبير من الناس لم يتناولوا طعاماً حقيقياً منذ أكثر من شهر، وقد تناولت رغيف خبز طازجاً لآخر مرة قبل أسبوع".

المساهمون