القضاء على الفقر... العالم بعيد عن مستوى معيشي لائق

23 يناير 2023
مستوى أعلى من الفقر في هندوراس (لويس أكوستا/ فرانس برس)
+ الخط -

يظهر فارق شاسع بين التصنيف العالمي للأشخاص الذين يعيشون في "فقر مدقع" ومن يعتبرون فقراء في البلدان الأكثر ثراءً في العالم. أما البيانات العالمية فتكشف عيش نسبة كبيرة من سكان جميع البلدان في فقر، وأن أي بلد حتى الأكثر غنىً لم يقضِ على الفقر، ما يلغي فعلياً وجود دول "متقدمة" في مكافحة الظاهرة، ويؤكد أن الجميع معني بتنفيذ عمل كبير في هذا الشأن.
في سبتمبر/ أيلول 2022، رفع البنك الدولي الدخل اليومي المرتبط بتحديد تصنيف عيش الفرد في "فقر مدقع" من 1.90 دولار إلى 2.15 دولار، ما مثل زيادة متواضعة للقيمة البعيدة جداً عن تحديد مستوى معيشي لائق، لكن محللين اعتبروها خطوة رمزية وتاريخية مهمة تشير إلى أن العالم سيستمر في محاولة بلوغ مستويات أعلى.
أما البلدان الأكثر ثراءً فتربط خط الفقر للفرد بدخل يقل عن 30 دولاراً يومياً، وهو بالتأكيد رقم بعيد عن متوسط الدخل في غالبية دول العالم. ومع الأخذ في الاعتبار مستويات الأسعار المختلفة في البلدان، تظهر أحدث الإحصاءات أن 85 في المائة من سكان العالم يعيشون بدخل يقل عن 30 دولاراً. 

ميزان النمو الاقتصادي
وباعتبار أن النمو الاقتصادي القوي ضروري لخفض الفقر في العالم، يؤكد خبراء ضرورة مضاعفة الاقتصاد العالمي خمس مرات كي يتراجع عدد الفقراء في شكل كبير، علماً أن هذا السيناريو يفترض أيضاً حصول انخفاض هائل في مؤشرات عدم المساواة في المكافآت والفرص المتوفرة أمام مختلف أفراد المجتمعات، وصولاً حتى إلى اختفاء عدم المساواة بالكامل، وهو أحد عاملين أساسيين في تحديد حصة البلدان في نسب الفقر، إلى جانب متوسط مستوى الدخل.
ورغم أن البنك الدولي يستبعد تسجيل معدلات نمو اقتصادي تتحدَّى التاريخ خلال ما تبقَّى من هذا العقد، ما يمنع تحقيق هدف العالم في خفض معدل الفقر المدقع إلى أقل من 3 في المائة بحلول عام 2030، ليست زيادة هذه المعدلات مستحيلة على المدى المتوسط لأن الاقتصاد العالمي حققها في العقود الخمسة الماضية، علماً أن باحثين في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ يتوقعون مزيداً من النمو في "سيناريو الاستدامة" هذا القرن، "ما يجعل العالم أكثر نجاحاً في تجنب مشاكل تغيّر المناخ تمهيداً لمواصلة المكاسب الإنتاجية التي تجعل النمو الاقتصادي أمراً ممكناً".
أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى أن واقع البلدان ذات الدخل المرتفع اليوم لم يكن كذلك قبل بضعة عقود، كما تركت غالبية العالم الفقر المدقع وراءها، ما يؤكد أن انتشار الفقر ليس واقعاً حتمياً.

يصعب اجتثاث الفقر من إفريقيا (سايدو باه/ فرانس برس)
يصعب اجتثاث الفقر من أفريقيا (سايدو باه/ فرانس برس)

منظار اليوم
واليوم، يتعامل الناس مع تقلص ظاهرة الفقر المدقع تحديداً، باعتباره حالة طبيعية في ظل نمو البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بسرعة، علماً أن 37.8 في المائة من سكان العالم كانوا يعيشون في فقر مدقع عام 1990. وبحلول عام 2019، انخفض هذا الرقم إلى 8.4 في المائة، قبل أن يرتفع إلى 9.3 في المائة عام 2020 (نحو 70 مليون شخص)، بتأثير وباء كورونا والإغلاقات التي شهدها الاقتصاد العالمي، لكن بمجرد طرح اللقاحات وإعادة فتح الاقتصاد العالمي، انخفض المعدل مجدداً بنفس السرعة التي ارتفع بها، وسجل 8.8 في المائة عام 2021، وربما أدنى مستوى على الإطلاق عام 2022. 
ويؤكد ذلك مرونة الاقتصاد العالمي والروح الإنسانية رغم نحو ثلاث سنوات من الانتكاسات المرتبطة بوباء كورونا.

أطفال الأسر الفقيرة يعانون من مشاكل مضاعفة (كزافييه غاليانا/ فرانس برس)
أطفال الأسر الفقيرة يعانون من مشاكل مضاعفة (دانيال ليل/ فرانس برس)

نفحة تفاؤل
وتكشف إحصاءات أخرى أن العالم حقق تقدماً جيداً في العقد الماضي على صعيد خفض عدد من يعيشون بدخل يقل عن 10 دولارات يومياً بنسبة 10 في المائة، لكن 62 في المائة على الأقل يعيشون أيضاً على أقل من 10 دولارات يومياً، و85 في المائة على أقل من 30 دولاراً، ما يعني أن التقدم إلى الأمام لم يكتمل، في حين "لا يمكن أن يكون أي مجتمع مزدهراً وسعيداً، حين يكون الجزء الأكبر من أعضائه فقراء وبائسين"، كما يقول الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم".
ورغم أن الآثار المستمرة لجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وتصاعد معدلات التضخم، تشكل عراقيل قد تخفض جهود مواصلة خفض عدد الأشخاص الذين يرزحون تحت فقر مدقع، لا يرى باحثون كثيرون مبرراً لعدم التفاؤل بحل المشاكل، باعتبار أن البشرية نجحت على مدى السنوات العشرين الماضية في تخطي المفاجآت والحوادث وحالات الرعب المرتبطة بالأزمات المالية والأوبئة والصراعات والحروب. وهم يطالبون بالعمل بسرعة لكسب مزيد من المعرفة والقدرات التكنولوجية لمواجهة التحديات في شكل أفضل.
ومعلوم أن تأثير تضخم أسعار الغذاء قد يكون مدمراً للأسر الفقيرة، حيث ينفق الشخص العادي في البلد ثلثي مدخوله على الغذاء. ويمكن للحكومات في كثير من الأحيان أن تخفف أثر ارتفاع معدلات التضخم على الأسر الفقيرة من خلال سياسات الحماية الاجتماعية، لكن الأوضاع المختلفة بعض الشيء عن الفترات السابقة من تضخم أسعار الغذاء استنزفت الموارد المالية للحكومات بسبب الكثير من التدابير المالية العامة التي تم تطبيقها خلال أزمة كورونا. وبالنسبة إلى الاقتصادات التي لا تزال تعاني من آثار الجائحة، جاءت ضغوط التضخم في أسوأ الظروف.

مشاكل الأطفال
وفيما يربط عالم البيانات في جامعة أكسفورد البريطانية، ماكس روزر، إحراز تقدم بدراسة المشكلات، من المهم ملاحظة النجاح في خفض عدد الأطفال الذين ماتوا بسبب الفقر في عام 2020 نحو 4 ملايين مقارنة بعام 2000.
وتجزم دراسات بأن أطفال الأسر الفقيرة يعانون من مشاكل مضاعفة ست مرات أكثر من أطفال الأحياء الثرية. ويشمل ذلك أعراض الاكتئاب والقلق والانسحاب الاجتماعي والشكاوى الجسدية (مثل آلام المعدة)، وكذلك صعوبات الانتباه والعدوانية والسلوك غير المثالي الذي قد يزيد الانحراف نحو الإجرام وتعاطي المخدرات في وقت لاحق من الحياة.
ونادراً ما تكون الصحة العقلية مسألة فردية، إذ يعتبر خبراء أن البيئة تلعب حتى دوراً أكبر في الصحة من الجينات. 
وحتى توفير البيئات التي تتيح لجميع الأطفال فرصة الازدهار، ستستمر الدراسات في تسليط الضوء على مخاطر عدم المساواة الاقتصادية والعرقية المرتبطة بالفقر أيضاً على الصحة العامة.
 

المساهمون