- جمعيات نسائية وحقوقية طالبت بتعديلات تجعل المدونة أكثر توافقاً مع دستور 2011 والتحولات الاجتماعية، مع الحفاظ على الشريعة الإسلامية وخصوصية المجتمع المغربي.
- النقاش حول المدونة يعكس الصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانيين، مع سعي الملك واللجنة المكلفة لتحقيق توازن يحترم الشريعة ويستجيب للتحديات الاجتماعية الحديثة.
احتلت مدونة الأسرة حيزاً مهماً في النقاش العام بالمغرب منذ أن دعا الملك محمد السادس عام 2022 إلى مراجعة القانون المنظم للأسرة. وأخيراً أطلقت معركة بين الإسلاميين والعلمانيين حول المدونة.
مع قرب انتهاء المهلة التي منحها الملك محمد السادس للجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة (الأحوال الشخصية)، في المغرب، تصاعد الانقسام بين الإسلاميين والعلمانيين (الحداثيين) بسبب خلافات حول قضايا عدة موضع جدل، مثل الإرث وزواج القاصرات وتعدد الزوجات والحضانة والإجهاض.
وخلال مهرجان نظمه حزب "العدالة والتنمية" (إسلامي)، في مدينة الدار البيضاء في 3 مارس/ آذار الجاري، لوّح الأمين العام للحزب رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران بتنظيم مسيرة مليونية للاحتجاج على أي مسّ بالمرجعية الإسلامية خلال مراجعة مدونة الأسرة، ودعا إلى الوقوف ضد كل ما يخالف تعاليم الإسلام.
وهاجم بنكيران الصف اليساري والعلماني، وتحديداً رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان (حكومي)، أمينة بو عياش، واتهمها بإصدار "مذكرة تتعارض مع الأسس الوطنية المستندة إلى الدين والدستور والإطار الملكي ورغبات المواطنين". كما انتقد بنكيران الأمين العام لحزب "التقدم والاشتراكية" نبيل بنعبد الله، والكاتب الأول لحزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" إدريس لشكر، اللذين دعاهما إلى "التصريح مباشرة بأنهما لا يريدان القرآن الكريم والمذهب المالكي، ويسعيان إلى تغيير الأحكام الواردة في كتاب الله من خلال اقتراحاتهما الخاصة بالمدونة".
وسارت الأمانة العامة لحزب "العدالة والتنمية" على منوال زعيمها، وانتقدت المجلس الوطني لحقوق الإنسان وما وصفته بأنه "محاولة لتحويله إلى مؤسسة عادية أو جمعية خاصة أو حزب يحمل توجهاً إيديولوجياً معيناً، في حين أنه مؤسسة دستورية وطنية تتولى، بموجب البند 161 من الدستور، النظر في كل القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وضمان حسن تنفيذها، والنهوض بها، وحفاظها على كرامة وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات وكل الجماعات، في إطار الحرص الكامل على احترام المرجعيات الوطنية".
أيضاً حذرت الأمانة العامة لحزب "العدالة والتنمية" من خطورة الخروج عن الإطار المرجعي والمؤسساتي للمراجعة الخاصة بمدونة الأسرة، تنفيذاً للرسالة التي وجهها العاهل المغربي محمد السادس إلى الحكومة في 26 سبتمبر/ أيلول 2023".
ولم تمر اتهامات بنكيران وحزب "العدالة والتنمية" ضد اليساريين والعلمانيين مرور الكرام، ووجدت فعّاليات يسارية في مناسبة اليوم العالمي للمرأة فرصة ملائمة لمهاجمتهما. وشدد حزب "التقدم والاشتراكية" (يساري معارض)، على أن "النقاش المجتمعي الدائر حول إعادة النظر في مدونة الأسرة يجب أن يحصل بهدوء ونضج ومسؤولية بعيداً عن خطاب التخوين والتكفير، وعن تزييف الحقائق وتحريف المواقف، ومصادرة حق كافة التيارات الفكرية والسياسية في التعبير عن وجهات نظرها في كَنف الدستور والثوابت التي تجمع الأمة المغربية".
من جهته، اعتبر عضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان المصطفى المريزق أن ما قاله بنكيران حول مذكرة المجلس "ادعاء كاذب يشكل خطراً على تماسك الأمة والأسرة والمجتمع"، وأكد أن المذكرة "تستند إلى مرتكزات على رأسها دستور المملكة، والشريعة الإسلامية، والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، والمرجعية الإسلامية الذي يعتمدها البلد".
ولا يبدو أن الجدال بين الإسلاميين واليساريين والحداثيين في المملكة سينتهي هنا، ما يثير أسئلة عدة حول دوافعه ونتائجه على صعيد تجديد بعث الصراع القديم بين التيارين الأيديولوجيين، وهو ما ظهر للمرة الأولى عام 1999، وذلك خلال مناقشة خطة دمج المرأة في التنمية خلال ما يعرف في المغرب بعهد حكومة التناوب التوافقي.
حينها عاش المغرب على وقع استقطاب وانقسام حادّين بين معسكر الإسلاميين الذي اعتبر أن الخطة محاولة للابتعاد عن الشريعة الإسلامية، وإسقاط مسحة غربية على القوانين الخاصة بالأسرة والنساء، ومعسكر اليساريين الذي رأى أن الخطة تشكل مقاربة شاملة للنهوض بأوضاع المرأة.
ومالت الكفة في مرحلة أولى إلى معسكر الدفاع عن المرجعية الإسلامية، إذ حشد معسكر الإسلاميين في مسيرة نظمها بالدار البيضاء في 12 مارس/ آذار 2000، أكثر من مليونين من معارضي الخطة، بخلاف مؤيدي الخطة الذين جمعت مسيرتهم في الرباط 100 ألف شخص، ثم حسم العاهل المغربي الملك محمد السادس الصراع بين الطرفين عبر تشكيل اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل قانون الأحوال الشخصية التي أوجدت مدونة الأسرة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2004، في خطوة شكلت حدثاً بارزاً، وأقوى دليل على الاستجابة للرغبة في تحديث المجتمع والنهوض بأوضاع الأسرة وتحقيق توازنها، وحماية حقوق المرأة والطفل، وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، وإعادة الاعتبار لمؤسسة الزواج ومسؤوليات الطرفين فيها.
وفي خطاب العرش في 30 يوليو/ تموز 2022، دعا العاهل المغربي محمد السادس إلى مراجعة القانون المنظم للأسرة، وهو ما طالبت به هيئات ومنظمات عدة بعد نحو عقدين من تجربة المدونة، لجعلها أكثر انسجاماً مع روح دستور عام 2011، ومسايرة التحولات التي يعيشها المجتمع.
وفي خضم النقاش الدائر منذ أسابيع حول المدونة، اقترحت جمعيات نسائية وحقوقية تعديلات في مواضيع مختلفة، من بينها الميراث، والوصية، والإرث بالتعصيب، والكد والسعاية، وميراث الأجانب، وزواج القاصرات والمغربيات المسلمات بغير المسلمين، وحضانة الأطفال بعد الطلاق، وحق الزيارة والتعويض عن المسكن، والنيابة الشرعية، والطلاق للضرر، وفترة ما قبل الطلاق، والنسب، والنفقة، والمتعة.
وتتحدث الباحثة المغربية شريفة لموير، لـ"العربي الجديد"، عن ضرورة حسم الجدال حول تعديلات مدونة الأسرة، خاصة أنها تحصل بدعوة من الملك محمد السادس"، وتلفت إلى أنه "في سياق الجدال الاستباقي الذي يعرفه المغرب، كان من الضروري التعامل مع الإصلاح باعتباره دعوة ملكية، وأن الملك محمد السادس أكد من أجل إزالة أي لبس ضرورة إيضاح أن ورش الإصلاح لن تحلّ ما حرمه الله ولن تحرم ما أحله الله، خصوصاً في المسائل التي تحسمها نصوص القرآن الكريم في شكل قطعي، وأن يحصل ذلك في إطار أحكام الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي".
وتقول لموير إن "الاجتهاد البناء الذي جاء في خطاب الملك محمد السادس يشكل ضمانة للتوازن المنشود في مدونة الأسرة، أما الآراء المتضاربة للشارع المغربي فتخلق تشويشاً لا يفيد مسار الإصلاح".
من جهته، يدعو مدير مركز "شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية" رشيد لزرق اللجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة (تتشكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة)، إلى تقديم اقتراحات في إطار الاجتهاد استناداً إلى الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعّاليات المعنية، ويقول لـ"العربي الجديد": "طالب العاهل المغربي محمد السادس بمراجعة نصوص المدونة في إطار التحديدات التي يسمح بها الدين الإسلامي مع مراعاة خصوصيات المجتمع المغربي، واعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية. ولجنة المراجعة محكومة بتنفيذ هذه التوجهات".
يتابع: "الاستقطاب الذي تحاول قوى التدين خلقه ذو أبعاد سياسية لمحاولة استباق قرارات اللجنة المكلفة بمراجعة نصوص المدونة، وقد فقدت العدالة والتنمية خزانها الانتخابي، في حين تحاول جماعة العدل والإحسان توجيه رسائل سياسية معارضة من خارج المؤسسات".
ويلفت إلى أنه "بخلاف عام 2003 يملك المغرب اليوم تراكمات تؤكد قوة مؤسسة إمارة المؤمنين في تدبير هذا الاستقطاب، ووقف غلو العلمانيين والمحافظين معاً. وهذا ما يمّيز التجربة المغربية القائمة على التسامح والاعتدال".