مرّت سنوات على مشاعر الألم والقهر لدى عائلات اعتقل النظام السوري أبناءها أمام أعين أفرادها. تعيش هذه العائلات اليوم قسوة الانتظار، في وقت يتضاءل الأمل ويتواصل إرث الاعتقال بلا رادع.
تعيش عائلات معتقلين من أبناء محافظة درعا في جنوب سورية التي قادت الانتفاضة على النظام عام 2011 للمطالبة بالحرية والكرامة، معاناة كبيرة بعدما فقدت أفراداً كانوا معيلين لها، وتركوا فراغاً في حياة أفرادها مجبولاً بالحنين والألم في ظل غياب أي أمل بالإفراج عنهم أو حتى كشف مصيرهم، في حين زادت المخاوف أخيراً إثر تعقّد الوضع الأمني في المحافظة التي يسعى النظام إلى تعزيز هيمنته عليها.
لا يزال خالد ز. (18 عاماً) من ريف درعا يذكر لحظات اعتقال والده عند حاجز تفتيش للنظام قبل أكثر من 8 سنوات، ويحضر أمام عينيه مشهد بكاء والدته وصراخها لدى محاولتها منع عناصر الحاجز من أخذه، وأيضاً بكاء شقيقته في تلك اللحظة، وحال الرعب التي عاشها. ويقول لـ"العربي الجديد": "غياب والدي طوال سنوات كان قاسياً جداً علينا. يومياً، كنت أتمنى أن أسير في جواره مثل باقي الأطفال، فيما لا أستطيع أن أصف الألم الذي أشعر به لدى تحدث أحد الجيران أو الأقارب عن والدي وحبه الكبير لعائلته. وتساءلت مرات لماذا أحرم من أبي في أكثر الأيام التي احتجت فيها إليه". يضيف: "فقدنا الأمان والاستقرار بغياب والدي. الرعب والخوف لم يفارقا أمي يوماً، حتى أنها لا تستطيع تحمل فكرة خروج أحدنا من البلدة، وتزداد حالتها سوءاً حين تسمع أن القوات النظامية ستدخلها. يحضر أبي في كثير من أحاديثنا وأحلامنا، وأمي لا تزال تصرّ على أنه حيّ، وسيعود إلينا مهما طال الزمن. وهذا الأمل يشعرنا بقوة، رغم أننا عانينا كثيراً من غيابه خلال طفولتنا".
يتحدث السبعيني أبو خالد م. الذي تحفّظ عن ذكر اسم عائلته لأسباب أمنية لـ"العربي الجديد"، ويقول: "لا يزال تصريح رئيس شعبة الاستخبارات الجوية السابق اللواء جميل حسن، المتهم بارتكاب جرائم حرب، خلال زيارته بلدتي داعل وابطع بريف درعا منتصف عام 2019، بأن غالبية المعتقلين قبل عام 2015 فارقوا الحياة، يحضر في أذهان مئات من العائلات التي تنتظر رؤية أبنائها المغيبين، أو التعرف على مصيرهم على الأقل". يضيف: "بعد أشهر قليلة سأكمل العام الثامن منتظراً عودة ابني الذي اعتقل خلال توجهه إلى عمله عند حاجز أمني في ريف درعا الغربي".
ويؤكد أبو خالد أن عائلته لم تشعر بطعم الحياة منذ يوم اعتقال نجله، وتعيش على أمل عودته بعدما تعرضت خلال السنوات السابقة لعمليات نصب واحتيال من أشخاص في النظام لجأت إليهم بأمل الاطمئنان على مصيره، أو تأمين واسطة لإطلاقه، لكن بلا جدوى. ويوضح أن "ابني المعتقل يدعى عبد الله، وترتيبه الأوسط بين أولادي. وحين خرج في ذلك اليوم، ودّع أبناءه الثلاثة، وكان أكبرهم في السادسة من العمر، ويبلغ اليوم سن الـ 14، ما يعني أنه لن يعرفه إذا كتب له رؤيته. مرت سنوات من المرارة والألم والفقر علينا، ولا أعلم إذا كان سيمدّ الله في عمري كي أراه مجدداً، أو أقف إلى جانب أبنائه ليشتد عودهم".
من جهته، يصرح ابن الريف الغربي لدرعا الناشط أبو محمد الحوراني لـ"العربي الجديد" بأنه "بعد التسوية التي أبرمت بين النظام وأهالي درعا برعاية روسيا عام 2018، نفذ عناصر الأمن العسكري التابعون للفرع 215 والذين ينتشرون في المنطقة عمليات لخطف مواطنين، ما دفع لجنة المنطقة إلى المطالبة بسحب هؤلاء العناصر من درعا، وهو ما حصل، لكن النظام تابع اعتقال الأهالي على حواجزه في محيط درعا البلد، ولدى قصدهم الدوائر الرسمية لإجراء معاملات، متجاهلاً خضوع الأهالي لاتفاق التسوية". يضيف: "لم يحترم النظام التسوية منذ اليوم الأول لإبرامها، ولم يطلق معتقلين كثيرين قبل عام 2018، في وقت يستمر الأهالي في تفادي المرور عند حواجزه لتجنب الاعتقال".
ويتهم المتحدث باسم "تجمع أحرار حوران" عقبة زوباني، في حديثه لـ"العربي الجديد"، النظام "بممارسة كل أنواع الانتهاكات بلا رادع بالتعاون مع مليشيات موالية له خصوصاً تلك التي تخضع لنفوذ إيران. وقد اعتقل 2400 شخص منذ إبرام التسوية عام 2018، وأفرج عن عدد بسيط منهم، في حين اغتال جهاز الأمن العسكري المئات وصادر عدداً كبيراً من منازل المعارضين، وحرم الأهالي من الطبابة، وارتكب مجازر في حق عشرات من العائلات النازحة من درعا البلد إلى مزارع قريبة منها عبر قصفهم وحصارهم، كما منع مساعدات عنهم. من هنا نطالب روسيا اليوم باعتبارها الضامنة للتسوية المبرمة عام 2018، بمحاسبة الفرقة الرابعة على انتهاكاتها، وقصفها درعا البلد أخيراً".
ويبلغ الأمين العام للمجلس السوري للتغيير المحامي حسان الأسود "العربي الجديد" أن "النظام السوري طبق سياسة واضحة ضدّ معارضيه منذ زمن حافظ الأسد والتي ثابر عليها وريثه بشار، والاعتقالات التي نفذت منذ بدء الثورة لم تكن تعسفيّة، بل ممنهجة بهدف توجيه رسائل قوية لكل الأطراف في الداخل والخارج، خصوصاً أن الاعتقال أداة لترويع المجتمع وتعطيل آليات التواصل السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، لأنّه يعرقل التراكم المعرفي الضروري لبناء قواعد العمل العام. من هنا مزّق النظام السوري عبر الاعتقال والتهديد بنية المجتمع، ومنع تجميع القوى والطاقات اللازمة لبناء المؤسسات وتنظيم الأفراد".
ويتابع الأسود: "الاعتقال أيضاً أداة ابتزاز للمجتمع الدولي تدعم أخذ النظام المواطنين رهائن للمقايضة عليهم حتى مع دول، وليس مع أهلهم وذويهم فقط. وأوضح مثال على ذلك اعتقال القيادي في هيئة التنسيق الوطنية الدكتور عبد العزيز الخيّر بعد عودته من زيارة رسمية للصين". ويشدد الأسود على أن "الاعتقال بات إحدى أدوات التهجير والتغيير الديمغرافي. فالخوف من الاعتقال لعب دوراً كبيراً في تفريغ منطقة درعا من كتلة وازنة من شبابها الفاعل، خاصة تلك المدعوة لأداء التجنيد الإلزامي أو خدمة الاحتياط".
ويرى الأسود أن "النظام لا يملك اليوم أي قدرة على إنتاج سلعة أو تقديم خدمة باستثناء ممارسة القمع وتنفيذ إرهاب الدولة المنظّم. لذا كثف التضييق على المناطق التي أعاد السيطرة عليها من خلال مفردات عدة بينها الموافقات الأمنية المطلوبة للقيام بعمليات بيع وشراء والتأجير والحصول على هبات، وأيضاً المطالبات الأمنية التي تعني عدم رفع مذكرات البحث عن مطلوبين، بل تعزيزها وتحديثها وتطويرها حتى بالنسبة إلى الأشخاص الذين أجروا تسويات، وفرض حجز مالي وقضائي للاستيلاء على أملاك معارضين. وقد دفع النظام مؤيديه إلى رفع دعاوى قضائية ضد ثوار بحجج وجود حقوق شخصية لا يمكن التغاضي عنها، كما منع السفر لمحاصرة أشخاص مؤثرين، وتفريغ المنطقة من شباب يعتبر أن وجودهم يشكل مصدر خطر عليه".
ويقول عضو لجنة المعتقلين في هيئة التفاوض العليا المعارضة طارق الكردي لـ"العربي الجديد": "يعتبر ملف المعتقلين والمغيبين قسرياً أحد الأكثر إيلاماً في سورية. ولا شك في أن نظام الأسد استخدم الاعتقال سلاحاً للقمع منذ اليوم الأول للحراك الشعبي، ثم ارتكب جرائم وانتهاكات فاقت كل تصور. وهيئة التفاوض السورية تولي ملف المعتقلين أهمية كبرى، وتدرجه على جدول أعمال كل اجتماعاتها، وتتعاطى معه ضمن لجنة صياغة الدستور التي تريد وضع مضمون دستوري خاص به. والملف إنساني أكثر من تفاوضي بحسب قرار مجلس الأمن رقم 2254".
ويرى الكردي أن "النظام يماطل في ملف المعتقلين ويمنع تقدمه لأسباب عدة أهمها تورطه نفسه في عمليات قتل وتصفية عدد كبير من المعتقلين خارج القانون، سواء تحت تعذيب أو عبر إعدامات، ما يجعله يتخوف من مواجهة ملاحقات قانونية دولية حول جرائم ارتكبها. كما يشكل هذا الملف مصدراً لجني القضاء وأجهزة الأمن التابعة للنظام أموالاً طائلة من خلال ابتزاز أهالي المعتقلين، ويريد النظام استخدامه أيضاً لابتزاز المجتمع الدولي ومقايضة بقائه وإعادة تعويمه بتحقيق تقدم فيه، علماً أن نظام الأسد واهم في نجاح هذه النقطة".