ينفطر قلب أمّ الشهيد الفلسطيني الشاب عمّار أبو عفيفة (19 عاماً)، وهي تحكي عن ابنها الذي فارق الحياة بعد إصابته برصاص الاحتلال في رأسه عند المدخل الغربي لبيت فجار في الثاني من مارس/ آذار الجاري، دون مواجهات أو سابق إنذار، فقد خرج لنزهة دون أن يدري أنها الأخيرة.
كانت أسرة عمّار تعيش على وقع أصوات قنابل الغاز المسيل للدموع القريبة جداً من المنزل، والتي تنطلق من برج عسكري إسرائيلي يلاصق مدخل مخيم العروب للاجئين شمال الخليل جنوبيّ الضفة الغربية المحتلة. ذلك الوجود العسكري الدائم والرصاص والغاز، هو ما هرب منه عمّار بداية الشهر الجاري، مع صديقه محمد أبو هنية إلى الطبيعة للتنزّه، فكان رصاص جيش الاحتلال ينتظره هناك.
معاناة يومية
تقول والدة الشهيد عمّار "أمّ عيسى" لـ"العربي الجديد": "إنها معاناة يومية نعيشها وكل الأهالي، إذ تستمر المواجهات بين جنود الاحتلال والشبان. يكون الجندي داخل البرج العسكري، لكنه يرى كل شيء في منزلنا، نوافذنا، أبناءنا...، كان عمّار دائماً في ضيق من هذا الوضع، حين كان يدرس على سطح المنزل ويرى أمامه المواجهات، كان يقول لي: الله أكبر، ألن نرتاح في بيتنا مثل باقي الناس".
ويوضح والده، شفيق أبو عفيفة، أنّ القنابل الغازية وجبة دائمة منذ أكثر من خمس سنوات، مضيفاً: "في كل يوم يطلقون القنابل الغازية ونعاني من الاختناقات. شخصياً، صرتُ أعاني من ضيق في التنفس، وأصبحت العائلة كلها وكأنها في قفص على مدار 24 ساعة، لأن البرج العسكري بجانبنا".
الهروب إلى الطبيعة
في ظلّ هذا الواقع، لم يجد عمّار وصديقه سوى الطبيعة متنفساً، كما يقول محمد الصديق والشاهد على عملية قتله برصاص جيش الاحتلال. يروي لـ"العربي الجديد" التفاصيل، قائلاً: "أردنا الذهاب في نزهة صغيرة، لم نختر المنطقة المعروفة لدينا بمزرعة العروب، لأننا نعرف أن جيش الاحتلال موجود دائماً هناك، اخترنا الخروج إلى منطقة جبلية بين المخيم وبلدة بيت فجار (جنوب بيت لحم جنوبيّ الضفة)، وأخذنا معنا البزر (مكسرات) وحاجات أخرى، كنا نتمشى، وفجأة رأى عمّار جيش الاحتلال".
ويتابع: "صرخ جيش الاحتلال علينا، ثم أطلق رصاصة، لم يفصلها عن وابل من الرصاص الكثير من الوقت، حاولنا الهرب، ركضنا هرباً من الرصاص، ثم غاب عمار عني. كان قد أُصيب وسقط أرضاً".
فرحة لم تكتمل
قبل تلك اللحظات التي فقدت فيها "أم عيسى" ابنها، كان عمّار قد عاد من الجامعة من أول يوم في الفصل الدراسي الثاني، فقد التحق بالكلية بداية العام الدراسي الحالي بعد نجاحه بالثانوية العامة، وكان يدرس المحاسبة - تخصّص أنظمة المعلومات المحاسبية.
عاد، كما تروي والدته، سعيداً بيومه الجامعي، يتحدث عن زملائه، وأساتذته، وكيف سيحصل على علامات عالية خلال هذا الفصل الدراسي، وسيتخرج سريعاً لتقيم له والدته حفلاً. أكل معها الطعام، ثم نام لفترة قصيرة، قبل أن يذهب لزيارة ابن عمه، ثم للبقالة المجاورة ليشتري مستلزمات النزهة مع صديقه.
لم تكن هناك مواجهات
يؤكد والده أن عملية إطلاق النار على ابنه لم يسبقها أيّ مواجهات، بل إن جيش الاحتلال مشّط المنطقة بعد أن قتل ابنه، وراجع كاميرات المراقبة، ولم يجد أي شيء يدعو لإطلاق النار. يقول: "إن ابني في تلك اللحظة كان يمسك بكوب من القهوة التي انسكبت على ملابسه بعد أن أطلق عليه الجنود النار وقتلوه".
يتابع الوالد المكلوم: "جيش الاحتلال يكذب. في البداية قالوا إنه ألقى الحجارة، لكنهم لم يجدوا أي دليل، ولم يكن ابني وصديقه قريبَين من أي موقع استيطاني، فأقرب مستوطنة (مجدل عوز) بعيدة جداً عن المكان، الاحتلال في النهاية تراجع عن روايته، وبعد احتجاز الجثمان لساعات سلمونا إياه الساعة الثالثة فجراً من اليوم التالي".
هو مجرد اشتباه بشابين فلسطينيين يتمشيان في الطبيعة، ليقرر جندي إطلاق النار على الرأس ويقتل أحدهما، يقول والد عمار "إنه يعتبر ذلك جريمة بشعة"، مطالباً بمحاسبة الاحتلال، وبنقل مثل هذه الجرائم التي يتعرّض لها الفلسطينيون إلى المحاكم الدولية.
قلب الأم ومناجاة الوداع
ودّعته والدته كما تقول في اليوم التالي لاستشهاده 2 مارس/ آذار ببضع كلمات، "قلت له: الله يرضى عليك، ويحنن عليك قد ما أنا حنونة عليك، الله يحسّر أمه عليه اللي حسرني عليك، إن شاء الله تكون من شفعائنا يوم القيامة".
هذا هو العُرس الفلسطيني |
— The Palestinian Archive الأرشيف الفلسطيني (@palestinian_the) March 3, 2022
أم الشهيد عمار أبو عفيفة (من مخيم العروب بالخليل) تحمل جثمان ابنها الذي استشهد في ١ مارس ٢٠٢٢.. pic.twitter.com/sT5i7IvIqX
وتتابع "أم عيسى": "إنها لم تكن تتخيل كيف تصبر أمهات الشهداء حين ترى إحداهن، لكن وكأن الصبر نزل عليها في ذلك اليوم، رغم أنها رأت جرحه وكيف دخلت الرصاصة من خلف أذنه وخرجت من مقدمة رأسه، لتفخر بابنها شهيد كل الشعب الفلسطيني".
التساهل مع القتل
تأتي عملية قتل الشهيد عمار أبو عفيفة في ظل تعليمات جديدة متساهلة لجيش الاحتلال بشأن فتح النار والضغط على الزناد على الشبان الفلسطينيين الذين يلقون الحجارة في الضفة الغربية المحتلة، صدرت في نهاية العام الماضي، وتتيح تلك التعليمات إطلاق النار حتى بعد انتهاء إلقاء الحجارة وفي أثناء انسحاب الشبان من المكان.
لكن جنود الاحتلال، كما يؤكد مدير مركز القدس للمساعدة القانونية، عصام العاروري لـ"العربي الجديد"، لم يكونوا ينتظرون مثل هذه التعليمات على مدار سنوات لتنفيذ عمليات القتل.
يقول العاروري: "حتى قبل إصدار هذه التعليمات، ومنذ عدة سنوات وسلطات الاحتلال إلى حد كبير، تعفي جنودها من أية مساءلة، وهذا كان واضحاً في عدد من الحالات التي وُثِّقَت في الكاميرات وعلى الهواء مباشرة، مثل الشهيد محمد سليم الذي اغتيل في منطقة باب العامود في القدس، وشوهد وهو ملقىً على الأرض ومصاب برجله، ولم يكن يشكل أي خطورة على أحد، لكن جيش الاحتلال أطلق الرصاص عليه وأنهى حياته".
ضرورة توثيق عمليات القتل
يؤكد العاروري أن "مركز القدس" يُجري عملية توثيق لعدد من الحالات حيث تعرّض فلسطينيون للاغتيال، واحتُجِزَت جثامينهم، أو اعتقلوا أحياءً وأُعلن لاحقاً استشهادهم في ظروف توجب الشبهة دون توثيق للتفاصيل، ودون وجود أي أدلة جنائية يمكن أن تدين جنود الاحتلال، مستذكراً في سياق إعفاء الجنود قضية الجندي إليئور أزاريا الذي قتل الشهيد عبد الفتاح الشريف في الخليل، وأظهر شريط مصور أنه أطلق الرصاص عليه وهو في حالة إغماء، وليس فقط لم يكن يشكل خطراً. وبسبب وجود التوثيق المصور، حوكم الجندي بالسجن لعام، لكنه لم يقضِ أكثر من ستة أشهر، مؤكداً أن سجنه من الحالات النادرة.
ويشدّد العاروري على أن هذا الأمر يطرح أمام المؤسسات الحقوقية الفلسطينية تحدياً من أجل التوثيق، خصوصاً في ظل حالات يُخفي الاحتلال تفاصيلها، كما حصل مع الشهيد المسن عمر أسعد (80 عاماً) من قرية جلجليا شمال رام الله وسط الضفة الغربية، الذي أُلقي أرضاً في جو شديد البرودة بعد الاعتداء عليه، واضطر الاحتلال إلى فتح تحقيق فقط بعد طلب من الجانب الأميركي، لكونه يحمل الجنسية الأميركية، لكن الإجراءات لم ترقَ إلى مستوى ما حصل.
ويتابع العاروري: "نعتقد أن هناك حاجة لمتابعة مهنية والتحضير لملف كامل والخروج به للمؤسسات الدولية، في العديد من الحالات التي أُعدِم فيها شهداء على الحواجز، كنا قد قدمنا طلبات رسمية من خلال المحكمة لإطلاعنا على كاميرات المراقبة في محيط الحاجز، ولم ننجح في الحصول عليها. ولو كانت التسجيلات تؤيد روايتهم لأُخرِجَت".