يبدو أنّ التمييز بحقّ فئات من المصريين لا ينتهي في البلاد. تتعدّد الأمثلة، ولعلّ آخرها ما جرى في جزيرة الزمالك مقارنة بما كان في جزيرة الورّاق سابقاً.
قبل فترة، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، حملة شعبية مناهضة لإنشاء عجلة دوّارة ضخمة في جزيرة الزمالك، أحد أرقى أحياء القاهرة، علماً أنّه من المفترض أن تحمل اسم "عين القاهرة" لتكون العجلة الترفيهية العملاقة الأولى في مصر وأفريقيا. ثمّ انتقل الجدال والاعتراض على إقامة المشروع الترفيهي من مساحات التواصل الاجتماعي إلى الأوساط السياسية، وذلك بين برلمانيين ووزراء سابقين إلى جانب شخصيات عامة تقطن في الحيّ الراقي. الأمر نفسه تكرّر في حيّ مصر الجديدة، شرقيّ القاهرة، وقد اعترض سكانه على إقامة كوبري (جسر) يمر بأحد أشهر ميادين الحيّ الراقي، وهو ميدان بازيليك. وقد شارك أعضاء في البرلمان في الجدال القائم، وكذلك شخصيات عامة عاشت حياتها بالكامل في هذا الحيّ العريق والتراثي.
في سياق متصل، قبل نحو أربع سنوات، توفّي المواطن المصري سيّد الغلبان وأصيب عشرات آخرين فيما هُجّر مئات وخضع للمحاكمة نحو 22 من سكان جزيرة الورّاق، وذلك في خلال اعتراضهم على حملة الإخلاء القسري لأهالي جزيرة الورّاق بهدف إتمام خطة الحكومة الخاصة بتطوير الجزيرة والتي أعلنت عنها في مايو/ أيار من عام 2017. وفي أواخر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2020، أصدرت محكمة جنايات القاهرة حكماً بالسجن المؤبّد بحقّ أحد المتهمين والسجن المشدد لـ34 آخرين من سكان جزيرة الوراق، فى القضية المعروفة إعلامياً بـ"أحداث شغب جزيرة الورّاق". وكانت النيابة العامة قد وجّهت إلى المتهمين تهم "التعدي على الممتلكات العامة والخاصة، ومنع موظفين عموميين من ممارسة أعمالهم، والبلطجة واستعراض القوة وقطع الطرق".
الفارق في التعامل الحكومي والشعبي بين الجزيرتين، يبدو للوهلة الأولى مرهونا بالتصنيف الجغرافي والاجتماعي للمكان، فالتعامل مع الأحياء الأرستقراطية اختلف تماماً عن التعامل مع الجزيرة النيلية الفقيرة التي يعمل سكانها مزارعين وحرفيين وأصحاب صناعات يدوية. وعلى الرغم من كون جزيرة الوراق محمية طبيعية ولا تختلف أهميتها وعراقتها عن جزيرة الزمالك الراقية أو حيّ مصر الجديدة الأرستقراطي التراثي، فإنّ الحكومة قررت محو تاريخ جزيرة الورّاق قبل الشروع في عملية التطوير.
تجدر الإشارة إلى أنّ جزيرة الورّاق هي الكبرى في نهر النيل مع مساحة تبلغ 1850 فداناً فيما يصل عدد سكانها إلى نحو 200 ألف مواطن. وهي تحتل موقعاً متميِّزاً، إذ تمثّل رابطاً بين محافظات القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية)، وتُعَدّ كذلك من أبرز المناطق الزراعية إذ تشغل الأراضي الزراعية أكثر من نصف مساحتها وتنتج أجود أنواع المحاصيل. أمّا سكانها فيعملون بمعظمهم في الزراعة والصيد. وكانت الورّاق تُعَدّ هي و16 جزيرة نيلية أخرى، محميات طبيعية وفقاً لقرار رئيس الوزراء رقم 1969 لسنة 1998، حتى أصدر رئيس الوزراء المصري السابق شريف إسماعيل في 19 يونيو/حزيران من عام 2017، قراراً مفاجئاً باستبعاد 17 جزيرة وفي مقدّمتها الورّاق من هذا القرار لمصلحة شركتين تكونان مسؤولتين عن عملية تطويرها إلى جانب اللجنة الهندسية في القوات المسلحة. والشركتان هما "آر إس بي" الإماراتية السنغافورية للتخطيط المعماري التي تمّ التعاقد معها في عام 2013، وشركة "كيوب" للاستشارات الهندسية التي تعاقدت معها حكومة أحمد نظيف في عام 2010.
في المقابل، اختلف التعامل الحكومي مع جزيرة الزمالك تماماً عن التعامل الأمني مع جزيرة الورّاق. ففي 21 يناير/ كانون الثاني من هذا العام، أعلنت شركة "هاواي" للاستثمارات السياحية، وهي شركة خاصة، عن إقامة مشروع "عين القاهرة" في مؤتمر صحافي حضره وزيرا السياحة والآثار المصريان إلى جانب محافظ القاهرة ومستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمراني. والمشروع يقضي بإنشاء العجلة الدوّارة الترفيهية والسياحية الأولى في القاهرة والكبرى من نوعها في القارة الأفريقية في حديقة المسلة بجزيرة الزمالك، بارتفاع 120 متراً، فيما تتيح لزائريها مشاهدة 50 كيلومتراً من القاهرة وكلّ المعالم البارزة المحيطة بها. ويأتي ذلك باستثمارات تبلغ نحو 500 مليون جنيه مصري (نحو 32 مليون دولار أميركي)، بهدف جذب 2.5 مليون سائح سنوياً، بعد حصول الشركة على حقّ انتفاع بحديقة المسلة لمدة 25 عاماً.
اعترض سكان جزيرة الزمالك على المشروع، نظراً إلى ما قد يسبّبه من ازدحام وضوضاء في الحيّ الراقي، فضلاً عن التأثير السلبي على الحديقة التاريخية وأشجارها، على الرغم من تعهّد رئيس مجلس إدارة الشركة في أثناء وضع الحجر الأساس للمشروع بالمحافظة على كل الأشجار والنخيل في الحديقة، والعمل على زيادة إجمالي المساحات الخضراء في المشروع بنسبة 15 في المائة، لتصل إلى سبعة آلاف متر مربّع بدلاً من 6100 متر مربّع.
لكنّ أحداً لم يلتفت إلى شجر جزيرة الورّاق الزراعية وأراضيها، على الرغم من اعتراف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شخصياً بأنّها أكبر من جزيرة الزمالك ومقامة على أرض زراعية بالكامل، وذلك في خلال إحدى جلسات مؤتمر الشباب الرابع الذي عقده النظام المصري في عام 2017. وقد قال حرفياً إنّ "جزيرة الوراق مقامة على أرض زراعية ولكن تمّ البناء عليها، والسكان يقومون بإلقاء الصرف في النيل، ثمّ بعد ذلك تعالج الحكومة المواطنين من أمراض الكلى والكبد بسبب تلوّث المياه. الورّاق كجزيرة أكبر من منطقة الزمالك من حيث المساحة، ولكن بسبب التخطيط الجيد خرجت الزمالك بهذا الشكل، ولكنّ جزيرة الوراق أرض زراعية ولا أحد ينكر ذلك". مع ذلك مورس ضدّ أهالي جزيرة الورّاق الإخلاء القسري الذي يُعَدّ بموجب القانون الدولي (الإبعاد غير الطوعي للأشخاص من ديارهم وأراضيهم) انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان.
وكانت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنيّة بالحق في السكن اللائق، ليلاني فرحة، قد وصفت ما حدث في جزيرة الورّاق بـ"تسليع المساكن"، وذلك في خلال زيارة لمصر في الفترة الممتدة بين 24 سبتمبر/ أيلول 2018 والثالث من أكتوبر/ تشرين الأول منه. ورأت أنّها "مسألة مثيرة للقلق بشكل عام في مصر، وقد تصير هذه الظاهرة أكثر سوءاً مع النوايا التي أعلنتها الحكومة أخيراً لتسويق العقارات في مصر كمنتج تصديري عن طريق جذب المستثمرين الأجانب إلى البلاد. وتحقيقاً لهذه الغاية، أعربت الحكومة عن رغبتها في الشروع في التطوير الفاخر للإنشاءات في كل أنحاء القاهرة، وهناك قلق من أنّ جزيرة الوراق ستقع فريسة لهذه الرؤية".
وحول ما جرى في جزيرة الورّاق من تهجير وإخلاء قسري وهجوم أمني، قالت فرحة إنّه "على الرغم من أنّني لم أتمكن من زيارة الجزيرة، فإنّني تلقيت روايات مباشرة من قبل السكان حول عمليات الإخلاء التي حدثت هناك، وتحدّث السكان عن خوفهم من النزوح، على الرغم من صلاتهم التاريخية بالأرض وفي العديد من الحالات لديهم سجلات ملكية. لكنّني شعرت بالذعر بشكل خاص عندما سمعت عن عمليات الإجلاء القسري التي جرت في الجزيرة في 16 يوليو/ تموز 2017 والتي أسفرت عن وفاة أحد المقيمين بالإضافة إلى التهم الجنائية اللاحقة ضد مجموعة من السكان الذين رفضوا بيع أراضيهم إلى الحكومة".