على الرغم من جميع المحاولات الدولية للحدّ من تأثيرات تغيير المناخ السلبية على صحة الإنسان والبيئة معاً، إلا أن دراسة ميدانية جديدة فتحت مجالاً أوسع للنقاش حول تأثير التلوث الدوائي على الصحة العامة.
وكشفت جامعة يورك البريطانية، في دراسة حديثة قادتها في الفترة الماضية، وجود كميات كبيرة من محلول أدوية الباراسيتامول والنيكوتين والكافيين والصرع والسكري في مجاري العديد من الأنهار.
New paper out today by John Wilkinson, Alistair Boxall and colleagues presenting the first truly global study of pharmaceutical pollution of riverine systems:
— ECORISC CDT (@ECORISC_CDT) February 14, 2022
Pharmaceutical pollution of the world’s rivers https://t.co/mv2uf3GmgH
وبحسب الدراسة والتي تعتبر الأكثر شمولية حتى الآن، لأنها تغطي عدداً كبيراً من المناطق حول العالم بما في ذلك الدول الفقيرة، فقد كانت الأنهار في باكستان وبوليفيا وإثيوبيا من بين الأكثر تلوثاً، فيما كانت الأنهار في أيسلندا والنرويج وغابات الأمازون المطيرة أفضل حالاً.
“The scientists measured the concentration of 61 active pharmaceutical ingredients at 1,000 sites along 258 rivers in 104 countries. Only two places were unpolluted—Iceland and a Venezuelan village where the indigenous people do not use modern medicines.” https://t.co/ggI8hVhlTY
— David Wallace-Wells (@dwallacewells) February 15, 2022
ما هي هذه الدراسة؟
سعى الباحثون في الدراسة التي نشرت في الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأميركية، إلى قياس تركيز 61 مكوناً صيدلانيا نشطاً أو كما يطلق عليه، (APIs) في أكثر من 1000 موقع على طول 258 نهراً في 104 دول تغطي جميع القارات.
وبحسب الدراسة، فإن التعرض البيئي للمكونات الصيدلانية النشطة (APIs) كان له آثار سلبية على النظم البيئية والبشر. في حين أن العديد من الدراسات قد رصدت سابقاً تأثيرات التلوث الدوائي في الأنهار، إلا أن الدراسة الحديثة تستخدم طرقاً تحليلية مختلفة، منها دراسة المركزات الدوائية لفترات أطول في المياه.
وتبين أنّ جميع المواقع دون استثناء كانت عرضة للتلوث البيئي، فيما لم يكن هناك سوى مكانين غير ملوثين في الدراسة، هما أيسلندا وقرية فنزويلية حيث لا يستخدم السكان الأصليون الأدوية الحديثة.
وأظهرت الدراسة أن مجاري الأنهار كانت ملوثة بالدرجة الأولى بأدوية الكاربامازيبينcarbamazepine ، والتي تستخدم لعلاج الصرع وآلام الأعصاب، والميتفورمين metformin المستخدم لعلاج مرض السكري، إضافة إلى الأدوية التي تحتوي على الكافيين، كما تم العثور على المضادات الحيوية عند مستويات خطيرة في واحد من خمسة مواقع تمت دراستها. وفي أفريقيا، تم العثور أيضاً على مادة الأرتيميسينين التي تستخدم في الطب المضاد للملاريا، بتركيزات عالية.
ومن بين الأدوية التي تم الكشف عنها في جميع القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية مضادات الاكتئاب سيتالوبرام وفينلافاكسين ومضادات الهيستامين سيتريزين وفيكسوفينادين والمضاد الحيوي تريميثوبريم وليدوكائين وهو نوع من أنواع المخدرات.
ووفق الدراسة، يمكن أن تكون المخاطر البيئية أكبر مما كان متوقعاً، فهناك أكثر من 2500 دواء قيد الاستخدام، لكن التكنولوجيا الحالية تسمح بتحليل 50-100 فقط من عينة واحدة، وبالتالي لا تزال العديد من الأدوية خارج نطاق التحليل.
من أين تأتي الأدوية؟
تتنوع مصادر وجود الأدوية داخل الأنهار، منها ما يتم رميه للتخلص منه، فيما النسبة الأكبر من الأدوية، جاءت عن طريق الصرف الصحي، فبعدما يتناول الناس الأدوية، ومن خلال عملية الهضم والتخلص من الفضلات التي تضم الأدوية، تخرج في نظام الصرف الصحي وإن لم تتم معالجتها جيداً، تخترق عندها مجاري الأنهار. إضافة إلى ذلك، فهناك بعض الأدوية، التي يتم تسريبها من المصانع مباشرة، بطرق وآليات مختلفة.
وتبين بحسب الدراسة، بأن المستويات العالية جداً من التلوث وجدت في مجاري أنهار لاهور في باكستان، ولا باز في بوليفيا، أديس أبابا في إثيوبيا. كما احتلت مدريد في إسبانيا أعلى 10 في المائة من الأماكن ذات التركيزات التراكمية الأعلى، وكانت غلاسكو بالمملكة المتحدة ودالاس بالولايات المتحدة في أعلى 20 في المائة من حيث التركيزات التراكمية للأدوية.
في المملكة المتحدة، نظرت الدراسة في 54 موقعا لأخذ العينات على 12 نهرا، واكتشفت المستحضرات الصيدلانية في جميع المواقع باستثناء أربعة مواقع في سنودونيا، ويلز.
علق جون ويلكينسون، من جامعة يورك في المملكة المتحدة والذي قاد الدراسة قائلاً: تبين بأن 19 في المائة من جميع المواقع التي تمت مراقبتها تجاوزت تركيزات (المضادات الحيوية) المستويات التي تشجع البكتيريا على تطوير المقاومة الخاصة بها، ما يعني بعبارة أخرى أن تركيز الأدوية في هذه الأماكن تجاوز النطاق الذي يمكن إنتاج بكتيريا معينة لمواجهة التلوث.
التأثيرات جسيمة
قدرت العديد من الأبحاث التي نشرت في فترة سابقة من العام الحالي، بحسب ما نقلته صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، أن 5 ملايين شخص قد ماتوا في عام 2019 بسبب الالتهابات البكتيرية التي كانت مقاومة للمضادات الحيوية. تتماشى المناطق التي تعاني من أعلى تأثير من مقاومة المضادات الحيوية في تلك الدراسة بشكل وثيق مع تلك الموجودة في الدراسة مع أسوأ تلوث للأدوية، مما يشير إلى أن تلوث الأنهار قد يلعب دورًا في زيادة المقاومة. كان أحد المواقع في بنغلادش يحتوي على مستويات من المضاد الحيوي ميترونيدازول أكثر من 300 مرة من الهدف الآمن، ربما بسبب التسريبات من تصنيع المستحضرات الصيدلانية.
حتى الآن، لا يزال تأثير العديد من المركبات الصيدلانية الأكثر شيوعاً في الأنهار غير معروف إلى حد كبير، لكن من المعروف على سبيل المثال، أن موانع الحمل البشرية الذائبة في المياه، يمكن أن تؤثر على تطور الأسماك وتكاثرها، ويخشى العلماء أن زيادة وجود المضادات الحيوية في الأنهار يمكن أن يحد من فعاليتها كأدوية.
ترجح الدكتورة فيرونيكا إدموندز براون، عالمة البيئة المائية من جامعة هيرتفوردشاير البريطانية أن تكون تأثيرات هذه المستحضرات الصيدلانية في الأنهار سلبية على البيئة، والصحة العامة.
وهو ما أكده أيضاً الخبير البيئي زياد أبو شاكر في حديثه لـ "العربي الجديد"، حيث وجد أن وجود كميات كبيرة من الأدوية أو بقايا الأدوية في مجاري الأنهار قد يكون له نتائج سلبية جداً على البيئة والصحة العامة.
بحسب أبو شاكر، فإن مستويات التلوث لا تتعلق بوجود الأدوية أو بقاياها في المياه، وتأثيراتها على المناخ وحسب، بل يظهر أيضاً من خلال إعادة استخدام هذه المياه، والتي قد يكون لها تأثيرات على صحة الإنسان.
وفق أبو شاكر، فإن التلوث الذي تحدثه الأدوية في مجاري الأنهار، يحتاج إلى سنوات قبل أن يتم تحلله بشكل نهائي، وخلال تلك الفترة، فإن الحياة البرية من أعشاب نهرية، أو أسماك ستتأثر سلباً بطبيعة الحال.
ويوضح أنّ التلوث الدوائي قد يكون الأخطر، لأن الأدوية والمستحضرات المصنعة والمركبة، قد يكون من الصعب جداً تحللها في غضون سنوات، وإن تم تحللها فإن تأثيراتها على الطبيعة قد تكون مؤذية جداً. ويشرح أبو شاكر على سبيل المثال، أن ري المزروعات بمياه تحتوي على كميات من الأدوية المخدرة، سيؤثر بطبيعة الحال على القطاع الزراعي، وعلى صحة المواطنين الذين يتناولون هذه المنتجات الزراعية.
مناطق فقيرة
تبين الدراسة أن المواقع الأكثر تلوثاً تقع إلى حد كبير في البلدان المنخفضة إلى المتوسطة الدخل، وفي المناطق التي يوجد فيها إغراق لمياه الصرف الصحي، وإدارة سيئة لمياه الصرف الصحي وتصنيع الأدوية.
ويعلق الدكتور محمد عبد الله، الأستاذ المشارك في الملوثات الناشئة في جامعة برمنغهام بالمملكة المتحدة على ذلك بالقول، إن مناطق مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، تحتوي على تركيزات عالية جداً من المستحضرات الصيدلانية، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الافتقار إلى البنية التحتية في معالجة مياه الصرف الصحي، وبحسب عبدالله، فإن الضرر الأكبر قد يكون من خلال إعادة استخدام المياه الملوثة من قبل السكان.
يوافق سيزار أبو شاكر على ما تقدم به الدكتور محمد عبد الله، ويؤكد أن المناطق الفقيرة عادة ما تتأثر بمعدلات أعلى من أي مناطق أخرى بسبب التلوث، وبحسب دراسة ميدانية قام بها في مناطق مختلفة في لبنان، لدراسة التلوث البيئي في الأنهار، وجد أن المناطق النائية والبعيدة عن العاصمة، كانت الأكثر تلوثاً، ويعود السبب في ذلك إلى ضعف البنى التحتية الصحية، الأمر الذي يسبب على المدى البعيد، بانتشار العديد من الأوبئة والأمراض في المناطق الفقيرة مقارنة مع المناطق المتحضرة.
يأمل العلماء أن يساعد البحث في تركيز جهود التنظيف على المستحضرات الصيدلانية والمناطق المعرضة للخطر الأكبر. ووفق ويلكينسون: "نحن نعلم أن معالجة مياه الصرف قد تكون الأداة الأنسب لمعالجة أزمة الوباء الدوائي، وهو ما يتطلب مئات الملايين من أجل تهيئة البنى التحتية لتحليل العناصر الدوائية".