تتدنى درجات الحرارة إلى ما دون 30 تحت الصفر خلال فصل الشتاء في ولاية قارص، في منطقة شرق الأناضول في تركيا، لكن سلطاتها نجحت في إعداد ما يلزم لربطها بخصوصيات جذب الناس إليها، ووفرت الدعاية المناسبة والبنى التحتية التي تستقطب هواة التزلج ومحبي الثلوج في أنحاء العالم.
ويزيد تنوّع الحضارات في مناطق ولاية قارص، التي تظهر في الآثار والطقوس الاجتماعية، الإقبال عليها، علماً أنها محاذية للحدود مع دولة أرمينيا، وقريبة من مدن أرزروم وأرداهان وآغري داخل تركيا.
وتبقى الخدمات المتوافرة في ولاية قارص إلى جانب حسن استثمار الموارد الموجودة، العوامل الأهم لجذب الناس من مختلف أنحاء العالم لزيارتها. وينطلق قطار "دوغو إكسبريسي" من العاصمة أنقرة إلى قارص في مسار يمتد على مسافة 1100 كيلومتر، ويمرّ بمدن كيركالي وقيصري وسيفاس وأرزينجان وأرزروم، وهو ساهم في مضاعفة عدد الزوار والسياح الذين يضطرون أحياناً إلى الانتظار أياماً عدة للحصول على بطاقة القطار للتوجه إلى قارص.
يقول الباحث التاريخي محمد قره أوغلو لـ"العربي الجديد": "لست متأكداً من أن وصف البرد بأنه قارس باللغة العربية يعود إلى ولاية قارص التي حكمها الأمويون والعباسيون، لكن اسمها لمع خلال القرن العاشر الميلادي حين حكم الأرمن المنطقة، في حين يعود تاريخها إلى 5000 عام، بدليل الحضارات والآثار الموجودة فيها والممتدة منذ الفترة الأوراتية، وحكم الفرس لها وسيطرة الإسكندر الأكبر عليها ثم الرومان والعرب الأمويين والعباسيين، وصولاً إلى السلاجقة والعثمانيين. من هنا كانت ولاية قارص التي تعرضت لغزوات وهجمات كثيرة أول مدينة تركية تحصل على لقب غازي".
وعن سبب تسمية ولاية قارص "غرب الشرق"، يقول قره أوغلو إن "التسمية ترتبط بواقع تعاقب حضارات عدة عليها، التي تركت آثاراً كثيرة فيها، كما تتعلق بميزات موقعها الجغرافي، وهي فعلياً خزان ثقافي وجغرافيا ألهم كتابات أدبية شملت قصصاً وروايات لأورهان باموق ونامق كمال وجمال ثريا، وأيضاً أفلاماً سينمائية وأعمالاً درامية لمخرجين كبار، من بينهم ريحا إيدريم ومراد سراج أوغلو.
ويتحدث قره أوغلو عن أن ولاية قارص تضم ثماني مدن، هي أكياكا وأرباتشيا وديغور وكاغيزمان وساريكاميش وسليم وسوسوز والعاصمة قارص، المدينة الأكثر ارتفاعاً في تركيا (نحو 2000 متر عن سطح البحر)، والتي تضم عدد سكان لا يتجاوز 300 ألف نسمة، علماً أن الولاية تحتل المركز الـ 63 بين ولايات تركيا على صعيد عدد السكان".
وحول المأكولات والطقوس التي تشتهر بها ولاية قارص، يقول قره أوغلو إن "الرغيف الأرمني لا يزال موجوداً في الولاية، ويعتبر عسلها من بين الأكثر جودة في العالم، كذلك تشتهر الولاية بلحم الإوز وحلوى أوماتش ومحشي التفاح وحساء الهوري القارصي الذي تنفرد به. أما شهرة الجبنة القارصية، فتصل إلى أصقاع الأرض، إذ تزيد أنواعها عن 30، وأشهرها جيجل وغرويير ومالاكان. وتضم الولاية متحفاً للجبنة وأدوات صنعها يعود إلى عام 1880".
ويوضح أن "أساليب صناعة جبنة قارص تختلف عن جبنة ديفلي أوبروك التي تنتج في قرية أوج هرمان بولاية قرمان، وتتميز بأنها تخزّن بعمق 36 متراً تحت الأرض، فميزة جبنة قارص، خصوصاً مالاكان، أنها كانت قد اندثرت وانقرضت قبل أن ينفذ سكان منطقة بوغا تبة محاولات طوال خمس سنوات لإعادة صنعها بمذاقها القديم الذي يعود إلى القرن التاسع عشر".
وتتضمن ولاية قارص آثاراً تاريخية ومواقع جذب سياحي كثيرة استفادت سلطاتها منها لتحويل الولاية، رغم البرد القارس فيها، إلى عاصمة للسياحة الشتوية في تركيا.
وتأتي الكنائس القديمة في مقدمة كنوز الولاية التي تعرف بلقب ألف كنيسة وكنيسة تحكي تاريخها تحفة حجرية تتمثل بقلعة رائعة تعود للقرن الثاني عشر، كذلك تحتضن قارص كنيسة هافاريلر التي تُلقب بكنيسة "الرُّسل الاثني عشر".
ويتصدر مركز صاري قامش للتزلج الذي تحيط به غابات ويحتوي على تلفريك نقاط الجذب والاهتمام في ولاية قارص، خصوصاً حين يفتح أبوابه لاستقبال المتزلجين من تركيا وخارجها بين نوفمبر/ تشرين الثاني وإبريل/ نيسان من كل عام، بسبب نوعية الثلوج الكريستالية التي تشبه تلك في جبال الألب بسويسرا. ويحتوي المركز على 5 مسارات متحدرة للتزلج بطول نحو 12 كيلومتراً.
أيضاً تعتبر بحيرة تشلدر واحدة من الوجهات السياحية التركية الرئيسية خلال فصل الشتاء، وتقع على الحدود بين ولايتي أردهان وقارص، وهي ثاني أكبر بحيرة تضم مياهاً عذبة في منطقة شرقي الأناضول، وتمتد على مساحة 123 كيلومتراً مربعاً وعمقها 42 متراً، ويتوافد آلاف السيّاح الأجانب والمحليين إليها لركوب عربات تجرها أحصنة على الثلج واصطياد الأسماك داخل الجليد، وممارسة الألعاب والمسابقات الشتوية".
وتشتهر ولاية قارص بنهر توجد على جانبيه أماكن ومواقع تاريخية، مثل جامع كومبيت وكنيسة الحواريين وجامع أولياء، وهو يمرّ من تحت جسر حجري يعتبر أول معلم تلاحظه العين عند مشاهدة مدينة قارص من أعلى، وبناه السلطان العثماني مراد الثالث عام 1579 فوق النهر من أجل ربط حيّ قلعة إتشي بحي صو كابي، وشيّد الجسر باستخدام أحجار البازلت، ويتضمن ثلاث قناطر، وأعيد ترميمه عام 1725.
ومن المعالم المهمة أيضاً قلعة قارص التي بناها الوزير فيروز أكاي عام 1153 بأمر من السلطان ملك عز الدين، ثم أعيد تأهيل منشآتها الداخلية وجدرانها الخارجية عام 1579 حين قدِم مصطفى باشا إلى الولاية بمرسوم من السلطان العثماني مراد الثالث، ثم تعرضت القلعة لتدمير خلال الحرب الروسية العثمانية في عامي 1877 و1878.
ولا تقلّ قيمة المشهد المدهش لمبنى العمارة البلطيقية أو مكتب الإيرادات في قارص عن قلعة قارص، وتجسده الهندسة المعمارية الفريدة والزخارف الموجودة على السطح الخارجي للمبنى الذي لا يزال يكتظ بالناس حتى اليوم بعد تحويله إلى مركز لبيع الكتب بعد ترميمه عام 1980. أيضاً يثير مبنى سيركا التاريخي ذات الهندسة البلطيقية الإعجاب.
إلى ذلك، تصنّف آثار مدينة العاني القديمة المحاذية للحدود مع أرمينيا في مقدمة المواقع الشهيرة، وتعتبر موقعاً مقدساً للأرمن الذين اتخذوها عاصمة لهم في القرن العاشر. وهي مدينة تاريخية مسوّرة تتضمن سبعة أبواب، واحتضنت 23 حضارة مختلفة أهمها الساسانية والبيزنطية والسلجوقية، واحتلت مكانة كبيرة خلال فترة طريق الحرير البري، واعتبرت ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى مملكة باغرات الأرمينية والإمبراطورية البيزنطية والتاريخ التركي. وقد أدرجت في القائمة المؤقتة للتراث العالمي لليونسكو عام 2012، ثم أضيفت إلى القائمة الدائمة عام 2016.
وتُحيط بمدينة آني العديد من الكنائس والمساجد ذات الجدران المحصنة الفريدة، ويمكن للسياح زيارة أطلال المدينة التاريخية والذهب بعدها إلى مركز التزلج في منطقة "ساري كامش" حيث تقع مجموعة فنادق المنتجع وسط غابة صنوبر ذات مناظر خلابة.