أحيا الصينيون قبل أيام الذكرى الـ2572 لميلاد الفيلسوف كونفوشيوس. وأقيمت في مسقط رأسه بمدينة تشيوفو في مقاطعة شاندونغ شرقي البلاد احتفالات كبيرة بالمناسبة شارك فيها مئات الأشخاص من بينهم طلاب وباحثون وخبراء، إلى جانب مسؤولين بارزين في الحزب الشيوعي بالمقاطعة. وتوافد المشاركون من مناطق عدّة إلى معبد كونفوشيوس في شاندونغ المدرج على قائمة التراث العالمي الخاص بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) والذي يُعَدّ أكبر وأكثر المعابد الكونفوشيوسية شهرة في شرق آسيا.
وقد بُثّت مراسم الاحتفال على الهواء مباشرة عبر منصة خاصة بمؤسسة كونفوشيوس يتابعها أكثر من ثلاثة ملايين شخص يشاركون في طقوس افتراضية تتضمّن تقديم أزهار وحرق بخور، وأداء شعائر تظهر التقدير والاحترام عبر أيقونات ورموز مخصصة لهذا الغرض.
كذلك، شهدت مقاطعات ومناطق صينية أخرى احتفالات مماثلة بمناسبة مولد الفيلسوف الصيني في 28 سبتمبر/ أيلول من عام 551 قبل الميلاد، الذي اشتهر بإنشائه أوّل مذهب يتضمّن كل التقاليد الصينية التي تتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي، في إطار فلسفته القائمة على القيم الأخلاقية التي ما زالت تعاليمها ذات تأثير عميق في فكر الصينيين وحياتهم.
قيم للإنسانية
لي تشيانغ طالبة في جامعة شينجن وناشطة في مركز لتعليم القيم الكونفوشيوسية، شاركت في مراسم نُظّمت عبر منصة بثّت تسجيلات فيديو قصيرة على شبكة الإنترنت لتكريم الفيلسوف الصيني. تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الاحتفال بالذكرى الـ2572 لمولد كونفوشيوس يؤكّد أنّ تعاليمه ما زالت حيّة وحاضرة في وجدان الشعب الصيني، وإنّ قيمتها ومكانتها لم تتأثرا أو تتراجعا بمرور الأزمنة والمنعطفات التاريخية التي مرّت بها الأمة الصينية". تضيف لي تشيلنغ: "أظنّ أنّ طبيعة الحياة الصناعية والتنافسية الحادة بين الدول دمّرت الروابط الإنسانية بين البشر، الأمر الذي يشير إلى حاجة اليوم إلى تمثّل روح كونفوشيوس وتعاليمه التي تدعو إلى السلام الداخلي والتناغم بين الناس باختلاف أشكالهم وألوانهم، وصولاً إلى تحقيق التوازن النفسي المطلوب في عالم مضطرب".
من جهته، يقول الشاب الصيني وو ليان لـ"العربي الجديد": "أشعر بأنّ روح كونفوشيوس ما زالت تسكن في قلوب الصينيين ونفوسهم من خلال الأسس التي وضعها قبل آلاف السنين، والتي تشكّل إطاراً دينياً ينظّم سلوكهم الاجتماعي ويحكمه".
رافعة حضارية
وعن مدى تأثير الكونفوشيوسية في حياة الصينيين واستمرار الحضور القوي لهذه الفلسفة بعد أكثر من 2500 عام، يقول سكرتير مركز كونفوشيوس في مقاطعة لياونيغ شمال شرقي البلاد، جاو لونغ، لـ "العربي الجديد" إنّ "الثقافة التقليدية الصينية تقوم على منظومة من القيم الأخلاقية والاجتماعية التي أسسها كونفوشيوس، والتي تكرّس مفاهيم الإنصاف والعدالة والحرية، وتعزز الشعور بالتناغم بين الإنسان والطبيعة".
ويلفت جاو لونغ إلى أنّ "الصينيين لا يتعاملون مع الكونفوشيوسية كديانة، على الرغم من أنّها تتداخل إلى حدّ بعيد مع الديانات السماوية وتتقاطع مع قواعد كثيرة على صعيد اللياقة والسلوك وردت في نصوص من العهد القديم والقرآن، مثل احترام الكبير ورحمة الضعيف والإحسان إلى الفقير وإغاثة طالب المساعدة، بالإضافة إلى كفّ الأذى ومساعدة المحتاج". ويشير جاو لونغ إلى أنّ "تأثير الكونفوشيوسية يظهر في تمسّك المجتمع الصيني بقواعد وأسس غير رسمية تنظّم أحوالهم وشؤونهم اليومية منذ آلاف السنين، ما يشكّل رافعة حضارية وأداة لمساعدة الحكومة في إدارة 1.4 مليار مواطن. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ تأثير الكونفوشيوسية لا يقتصر فقط على الشعب الصيني، بل يشمل كلّ شعوب شرق آسيا وبعض الدول الغربية التي بدأت تتسلل إليها تعاليم كونفوشيوس عبر مراكز ومعاهد صينية متخصصة".
تأثير سياسي
ويرى باحثون أنّ "تأثير الكونفوشيوسية لم يشمل المجال الاجتماعي فقط، إذ اضطلعت بدور كبير في رسم السياسة الخارجية للصين التي لم تنهض كأمّة إلا حين كانت ممتثلة لهذه القيم قبل أن تبتعد عنها أو تهمّش تعاليم كونفوشيوس، ما عرّضها إلى غزو خارجي وحروب وكوارث ودمار".
وتركّز الفلسفة السياسية لكونفوشيوس على إظهار الحاكم الفضيلة والحكمة في اتخاذ القرارات بدلاً من اللجوء إلى العقاب، وتشكيله مثالاً يحتذى لرعيته، علماً أنّها ظهرت حين عانت الصين من تفتت سياسي واجتماعي بسبب الصراعات بين الزعماء الذين قلّصوا السلطة المركزية في البلاد، ما جعلها في أيدي الإقطاعيين النافذين الذين نشروا الفقر والمرض والجهل.
والحقيقة أنّ القيادة الصينية استندت إلى كثير من تعاليم كونفوشيوس في رسم سياساتها، وأبرزها مبادئ التعايش السلمي الخمسة التي قامت عليها السياسية الخارجية الصينية منذ مؤتمر باندونغ في خمسينيات القرن الماضي، وهي: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. كذلك اعتمد الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ في سياسة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها في نهاية سبعينيات القرن الماضي، على قيم كثيرة تنبذ الانغلاق وتدعو إلى الانفتاح والتصالح مع الآخر، ما أوجد عوامل ساهمت في تقريب الصين من العالم وانخراطها في المؤسسات والمنظمات الدولية بعد عقود من العزلة. واليوم، تدعو السياسة الخارجية للصين إلى تبنّي مصير مشترك للبشرية ونبذ الإرهاب والعنف، وتتّصل بشكل أو بآخر مع التعاليم التي أرساها الفيلسوف الصيني قبل أكثر من 2500 عام.
تجدر الإشارة إلى أنّ 579 معهداً صينياً يُصار فيه إلى تدريس فلسفة كونفوشيوس في 151 دولة ومنطقة في العالم. وفي عام 2020، بلغ عدد الطلاب المسجلين في هذه المعاهد 11 مليوناً. وفي سياق متصل، عمدت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى تصنيف مثل هذه المعاهد في الولايات المتحدة الأميركية بعثات أجنبية، واتّهمتها بترويج الدعاية الصينية في داخل الجامعات الأميركية وخدمة أجندة الحزب الشيوعي الصيني.