ترك تغيّر المناخ تأثيرات على البنى التحتية والمباني في العديد من الدول الأكثر تضرراً، خصوصاً تلك التاريخية التي شيدت قبل عشرات السنين، في ظل ارتفاع درجات الحرارة. يضاف إلى ما سبق الفيضانات التي جرفت مئات المنازل والمباني والقرى، في ظل ضعف قدرتها على الصمود في وجه تغير المناخ. واقع يدفع الخبراء إلى التفكير في بناء منازل مستدامة قادرة على التكيف مع الواقع الجديد الناتج عن تغير المناخ.
وتفيد بيانات صادرة عن منظمة "الهندسة المعمارية 2030" التي تأسست في عام 2002، استجابة لحالة الطوارئ المناخية المستمرة، بأنّ المباني تساهم بنحو 40 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية السنوية. من إجمالي هذه الانبعاثات، فإن عمليات البناء مسؤولة عن 27 في المائة سنوياً، في حين أن مواد البناء والبنية التحتية والتشييد، وهو ما يعرف بالكربون المتجسد المسؤول عن انبعاثات الكربون المرتبطة بتصنيع ونقل مواد البناء وعملية البناء، مسؤولة عن 13 في المائة.
في عام 1987، عرفت لجنة بريندتلاند التابعة للأمم المتحدة، الاستدامة على أنها "تعني تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرات الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها الخاصة". وبدأ الحديث عن المنازل المستدامة خلال السنوات القليلة الماضية. يشار إلى أن العمارة المستدامة أو العمارة الخضراء هو مصطلح عام يصف تقنيات التصميم الواعي بيئياً في مجال الهندسة المعمارية. وهي عملية تصميم المباني بأسلوب يحترم البيئة مع الأخذ في الاعتبار تقليل استهلاك الطاقة والمواد والموارد مع تقليل تأثيرات الإنشاء والاستعمال على البيئة وتنظيم الانسجام مع الطبيعة.
ويقول المهندس المعماري خليل سلهب لـ "العربي الجديد": "راجت في الفترة الماضية المباني المستدامة في ظل تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة. إلا أن بناء منزل مستدام لا يتعلق فقط بآلية الإعمار، بل هو مفهوم أوسع، يتجلى من خلال اختيار الموقع الذي يتوفر على الخصائص البيئية الطبيعية، مثل المياه والضوء. في المراحل الأولى من البناء المستدام، ينظر دائماً إلى كيفية استفادة البناء من الضوء ومن تدفق الهواء من أجل التبريد والتدفئة بشكل طبيعي، وكيفية خلق ممرات هوائية في المنزل، ثم اختيار الشكل الهندسي، والمواد التي يجب أن تكون عازلة وصديقة للبيئة، مثل الحجر والفلين والخشب والخيزران، ومن المهم أيضاً تجهيز المنازل بأنظمة تساعد في توليد الطاقة النظيفة لخفض نسبة الانبعاثات وتأثيراتها".
ويشير سلهب إلى أنه يفضل استخدام الخيزران والكونكريت كونهما من أكثر المواد الضرورية لبناء منزل مستدام، لأن مصادرهما طبيعية، وبالتالي فإن تأثيراتهما المناخية قليلة مقارنة بالمواد الاصطناعية. كما ينصح بضرورة استخدام الخرسانة الجاهزة، وهي خليط من الإسمنت والمياه والركام، لأنها تتطلب مواد أقل.
وبحسب موقع "Construction" (البناء) المتخصص بالشؤون المعمارية، يتطلب بناء منزل مستدام استخدام العديد من المواد، أبرزها الخرسانة القابلة للانحناء، وهي عبارة عن مركّب إسمنتي هندسي يعرض خاصية المواد القابلة للسحب على عكس الطبيعة الهشة للخرسانة التقليدية، ويتم تغيير التركيب المادي للخرسانة التقليدية من أجل إضفاء طابع مرن على الخرسانة. وعلى عكس الخرسانة التقليدية، فإن تلك القابلة للانحناء تقاوم التشقق بنسبة أكبر، وهي أكثر فاعلية في امتصاص التصادم لأنها تحتوي على ألياف صغيرة مشتقة من البوليمر (مركب ذو وزن جزيئي مرتفع مكون من وحدات جزئية مكررة) التي تزيد من ليونة المادة.
كما تعد الأخشاب من المواد التي تضفي منظراً جميلاً وطبيعياً على البيت، وقارنت دراسة نُشرت في "Journal of Building Engineering" (مجلة هندسة البناء) الأثر البيئي بين مبنى من الخرسانة المسلحة ومبنى من الخشب، ووجدت أن "البناء الخشبي يخفف انبعاثات الاحتباس الحراري بنسبة 26.5 في المائة".
كما يفضل استخدام "الميسيليوم"، والتي تُشبه قوالب الليغو، ويمكن أن تقلل من البصمة الكربونية للبناء. وفي عام 2014، عرض معرض في متحف نيويورك للفن الحديث تركيبا معمارياً مصنوعاً من النفايات الزراعية. فضلاً عن الخرسانة المطبوعة ثلاثية الأبعاد، والتي تتمتع بالقدرة على جعل هياكل المباني أكثر كفاءة واستدامة إضافة إلى توفير الوقت والمال والمواد. إذ يتم تصنيع القطع عن طريق تقسيم التصاميم إلى طبقات صغيرة باستخدام برامج الحاسوب، ومن ثم يتم تصنيعها باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد عن طريق طباعة طبقة فوق الأخرى حتى يتكون الشكل النهائي.