جامعات غزة... الاحتلال ينسف المقارّ ويغتال الأكاديميين

21 يناير 2024
+ الخط -

لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بقتل الفلسطينيين في قطاع غزة، وتدمير منازلهم وأعمالهم، بل يتوغل إلى تهديد مستقبلهم من خلال تدمير المدارس والجامعات التي باتت ضمن أهداف القصف المتواصل.

نشر الاحتلال الإسرائيلي يوم الأربعاء 17 يناير/كانون الثاني، مقطع فيديو يستعرض فيه قدراته العسكرية خلال تفجير "جامعة الإسراء" في وسط قطاع غزة، في المنطقة التي كانت معروفة باسم "محررات وسط القطاع"، التي توجد فيها مباني جامعة الأزهر وجامعة فلسطين أيضاً.
وعبّر الكثير من طلاب جامعة الإسراء عن حزنهم الشديد بعد انتشار فيديو التدمير على مواقع التواصل الاجتماعي، لكونه يأتي بعد عامين من افتتاح مقرّ الجامعة في قرية المغراقة، بعد خمس سنوات على تأسيسها، ومواصلة عملها داخل مبانٍ صغيرة متناثرة في وسط مدينة غزة، قبل أن تصبح جامعة متكاملة لديها أقسام ومبانٍ وكليات معترف بها من وزارة التعليم العالي الفلسطيني.
كانت مشاعر الحزن أشد بالنسبة إلى إسراء حميد (20 سنة)، وهي طالبة في السنة الثانية بكلية التمريض، والتي شعرت بأن الاحتلال قتل كل آمالها في مواصلة دراستها حين شاهدت مقطع الفيديو الذي يوثق تدمير كليتها، ويترافق ذلك مع أحزان فقد عدد من أفراد عائلتها، من بينهم شقيقها عبد الرحمن (25 سنة)، في قصف إسرائيلي دمر منزلهم بحيّ النصر في مدينة غزة، ومعايشتها حياة النزوح منذ بداية العدوان الإسرائيلي، والتنقل بين منازل الأقارب ومراكز الإيواء، وصولاً إلى خيمة صغيرة في مدينة رفح.
تشعر إسراء بأنها تعيش في كابوس كبير، وتتمنى في كل يوم أن تستيقظ منه، وأن يكون حلماً وليس حقيقية، مشيرة إلى أن أسرتها أمنت لها بصعوبة رسوم الجامعة هذا العام، وقد حصلت على منحة جزئية من إدارة الجامعة بسبب تفوقها، لكنها أصيبت بالإحباط بعد تدمير المقر، الذي عاشت مع الكثير من صديقاتها ذكريات جميلة في داخله، فالجامعة بالنسبة إلى الطلاب متنفس مهم يمكنهم من استكمال الحياة تحت الحصار داخل قطاع غزة.
تقول حميد لـ"العربي الجديد": "نعيش في غزة وسط مجتمع مغلق، ولا يمكننا أن نسافر، ولا توجد لدينا أماكن ترفيهية لأننا نعيش حالة من الاكتظاظ الشديد، وبالتالي هناك متنفسان فقط، هما الجامعة وشاطئ البحر، والآن بعد تدمير الجامعة لا أعرف ما الذي يمكن أن يحصل، وزادت الأسئلة التي كانت تطاردني منذ بداية العدوان سؤالاً جديداً، مفاده: أين سندرس؟ وسأضيفه إلى أسئلتي الأخرى التي تشمل: أين سنسكن؟ وكيف نأكل ونشرب؟ إنها أسئلة لا أنا ولا غيري نستطيع الإجابة عنها".

دمر الاحتلال مبنى الجامعة الإسلامية في غزة (محمد الحجار)
دمر الاحتلال مبنى الجامعة الإسلامية في غزة (محمد الحجار)

وكانت الجامعة الإسلامية ضمن أول الاستهدافات الأكاديمية في قطاع غزة خلال العدوان الحالي، ودمر الاحتلال جميع مبانيها، وتعمّد أيضاً استهداف عدد من الأكاديميين ورؤساء الأقسام، مثل عميد كلية الطب في الجامعة، الطبيب عمر فروانة، الذي استشهد مع 10 أفراد من عائلته في أكتوبر/تشرين الأول.
واستشهد في العدوان الإسرائيلي رئيس الجامعة الإسلامية، سفيان تايه، الذي صُنف في عام 2021 ضمن أفضل 2 في المائة من الباحثين حول العالم، لكونه يحمل درجة الأستاذية في تخصص الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، كذلك اختير لشغل مقعد منظمة اليونسكو لعلوم الفيزياء وعلوم الفضاء في فلسطين في عام 2012، ما أثار غضب الاحتلال وقتها، وتعرّض لحملة ممنهجة من التحريض عليه وعلى الجامعة الإسلامية بعد قرار منظمة "اليونسكو".

النموذج الفلسطيني سفيان تايه.. من المخيم إلى مراتب العلم فالشهادة

ويؤكد العميد السابق لكلية الطب في الجامعة الإسلامية، الطبيب فضل نعيم، أنها كانت من أهم كليات الطب في قطاع غزة، ودرس فيها عدد من أبرز الأطباء العاملين في مستشفيات القطاع والمهجر، لكن الاحتلال دمرها بالكامل، ونشر مقطع فيديو يوثق عملية نسفها، مشيراً إلى أنه شعر عند مشاهدة فيديو تدمير الكلية بحسرة تشبه حسرته حين علم باستشهاد نجله خلال العدوان، بينما كان على رأس عمله في المستشفى المعمداني.
ويقول أحمد المدهون، وهو أحد طلاب كلية الطب البشري بالجامعة الإسلامية، لـ"العربي الجديد": "يحاول الاحتلال قتل مستقبلنا. كنت في السنة الثالثة من دراستي، وكنت أعتبر الجامعة طريقي لتعزيز هويتي الوطنية، وقد قضى عدد من المحاضرين شهداء خلال العدوان، وعندما شاهدت مقطع تدمير مبنى كلية الطب شعرت بخسارة جزء من روحي".
يستغرب المدهون سبب تفجير المبنى الذي يضم قاعات دراسية ومختبرات وأجهزة طبية، ويقول: "هل هذه الأدوات الطبية بالنسبة إليهم وسائل إرهاب؟ أتعجب من هذا الجيش الذي يزعم أنه جيش أخلاقي، ويدعي أن لديه قدرات أمنية واستخبارية تمكنه من كشف الأهداف العسكرية، بينما ما يجري في الجامعات دليل إضافي على أن هدفه الوحيد تدمير كل شيء، وقتل كل البشر".

تكرر استهداف جامعات غزة في كل عدوان (محمد الحجار)
تكرر استهداف جامعات غزة في كل عدوان (محمد الحجار)

وحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي)، يضمّ قطاع غزة 19 مؤسسة للتعليم العالي، ما بين جامعة وكلية جامعية، ووثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قتل الاحتلال الإسرائيلي 94 من أساتذة الجامعات والكليات في غزة، إلى جانب مئات المعلمين وآلاف الطلاب، مؤكداً أن جيش الاحتلال نفذ هجمات متعمدة وممنهجة على شخصيات أكاديمية وعلمية وفكرية في القطاع، واستشهد العشرات منهم في غارات مباشرة استهدفت منازلهم من دون سابق إنذار.
من بين الأكاديميين الشهداء 17 شخصية يحملون درجة الأستاذية، و59 يحملون درجة الدكتوراه، و18 يحملون درجة الماجستير، لكن تلك الإحصائية ليست نهائية، إذ إن قرابة 7 آلاف شخص لا يزالون في عداد المفقودين، وبعضهم شهداء تحت الأنقاض لا تعلم عنهم عائلاتهم شيئاً في ظل استمرار العدوان، وانقطاع الاتصالات.
وقالت وزارة التربية والتعليم في غزة، إن الاحتلال الإسرائيلي دمر جميع الجامعات في القطاع، وكذلك مقار المؤسسات الحقوقية، مؤكدة أن عملية التدمير الممنهجة بدأت باستهداف مباني الكليات الكبيرة في مدينة غزة، وخصوصاً في منطقة الجامعات بحيّ الرمال وحيّ تل الهوا، وبعضها فُجِّر أو نُسف بالكامل، كذلك استخدم الاحتلال مباني جامعية كثكنات عسكرية، خصوصًا في قرية المغراقة على حدود وادي غزة بين المنطقة الشمالية المحاصرة ومناطق وسط القطاع وجنوبه، وكانت قوات جيش الاحتلال تتمركز في داخل جامعة الإسراء التي حُوِّلَت إلى مركز اعتقال قبل تدميرها بالكامل، حتى لا يكون هناك دليل على استخدامها كمركز اعتقال وتعذيب.
وكررت الوزارة عبر بيانها إدانة الاحتلال لتدميره مباني المدارس والجامعات في قطاع غزة، واعتبرت ذلك سلوكاً إجرامياً لن يحقّق الأهداف العدوانية التي تحاول تقويض المنظومة التعليمية، إذ دمر الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أكثر من 390 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية، كان آخرها تفجير جامعة الإسراء، وإعادة قصف الجامعة الإسلامية.
بينما قالت "جامعة الإسراء" في بيان لتوضيح حجم الخسائر، إن "الاحتلال احتل المقر لمدة سبعين يوماً، وحوله إلى مركز لقنص المدنيين العزّل، إلى جانب كونه ثكنة عسكرية، كذلك دمر جنود الاحتلال جميع مباني الجامعة والمختبرات التي استُحدِثَت قبل العدوان، ونهبوا محتوياتها، فضلاً عن تدمير المسجد المقام بداخل الحرم الجامعي. ولم يقتصر التدمير على المبنى الجامعي، بل امتد كذلك إلى المتحف الوطني، وهو مرخَّص من وزارة الآثار الفلسطينية، وكان يضمّ أكثر من ثلاثة آلاف قطعة أثرية نادرة، وقد سرق جنود الاحتلال تلك الآثار".


يعبّر المحاضر في علم الإدارة بجامعة الإسراء، أحمد جمعة، عن حزنه الشديد بعد تدمير الجامعة التي كان يعمل فيها منذ عامين، ويقول لـ"العربي الجديد": "قتل الاحتلال آلاف مصادر الرزق، ودمر أحلام الطلبة المتمسكين بالتعليم كهوية وتفريغ نفسي. نعيش في مجتمع محاصر يمنع أفراده من التنقل أو التنزه، وكنا نعاني لتوفير الطعام والشراب بسبب الحصار الطويل الذي فرض علينا قبل العدوان".
يضيف جمعة: "العديد من الأكاديميين والمحاضرين في جامعات غزة كانوا يعملون طوال السنوات الخمس الأخيرة بنظام الساعات، فجامعات القطاع لجأت إلى هذا الأسلوب بسبب الأزمات المالية، ولم تكن تملك تعيين المحاضرين، والغالبية كانوا معزولين عن العالم الخارجي، ولا يستطيعون التواصل مع الجامعات العالمية لتبادل الخبرات، وكل هذا فاقم الأزمات الاقتصادية".

الأرشيف
التحديثات الحية

ولم تكن الجامعات والمؤسسات التعليمية ضمن أهداف الاحتلال خلال العدوان الحالي وحده، إذ طاولها العدوان الإسرائيلي المتكرر خلال السنوات الماضية، وكانت ضمن أهم الأهداف في عدوان 2008 ــ 2009، إذ بدأ جيش الاحتلال بقصف الجامعات، ودمر مبنى المختبرات المركزي في الجامعة الإسلامية، وألحق دماراً كبيراً بعدد من مباني 5 جامعات.
وفي عدوان عام 2012، ألحق قصف الاحتلال أضراراً بجامعتين، وفي عدوان 2014، الذي استمر لمدة 51 يوماً، ألحق القصف أضراراً بالغة بمباني 6 جامعات غزية، بينما في عدوان عام 2021، ألحق أضراراً بثلاث جامعات ومعهد للتعليم العالي.
ويلاحق الاحتلال الإسرائيلي العديد من المؤسسات الدولية التي تمتلك علاقات مع جامعات قطاع غزة، خصوصاً المؤسسات التي تقدّم الدعم إلى البرامج والطلاب في أبرز جامعات القطاع، مثل الجامعة الإسلامية وجامعة الأقصى وجامعة الأزهر، ضمن مساعٍ متواصلة لمنعها من التواصل مع المؤسسات التعليمية في خارج القطاع، أو الحد من برامج التبادل الأكاديمي مع الجامعات الإقليمية والعالمية.

المساهمون