جوع مدغشقر... إنذار للعالم من التدمير الذاتي البيئي

13 أكتوبر 2022
التدمير البيئي الذاتي أحد أسباب المجاعة في مدغشقر (ريجاسولو/ فرانس برس)
+ الخط -

في الوقت الذي انشغل فيه العالم بارتفاع درجات الحرارة في بريطانيا، أو الحرائق التي اندلعت في مناطق عدة بدول أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا، أو الأعاصير والفيضانات التي تجتاح الولايات المتحدة، تشهد مدغشقر أزمة بيئية ذات أبعاد إنسانية تتأثر بمواجهتها أسوأ موجة جفاف منذ 40 عاماً، وتتحوّل إلى جرس إنذار للعالم مع انتشار الجوع.
وتصنّف الأمم المتحدة الوضع في مدغشقر بأنه "كارثة إنسانية"، وتعتبر أن الدولة الأفريقية بين الدول العشر الأكثر تهديداً بالكوارث في أنحاء العالم خلال السنوات المقبلة، علماً أنها تقع في المحيط الهندي، وتبعد مسافة 400 كيلومتر من ساحل شرقي أفريقيا، وهي ثاني أكبر دولة في العالم تتألف من جزر بعد إندونيسيا.
وتواجه مدغشقر أزمة حقيقية بسبب تعرضها إلى أسوأ موجة جفاف منذ عقود، خاصة في جزئها الجنوبي، حيث تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن 1.47 مليون شخص على الأقل يحتاجون إلى مساعدات غذائية طارئة.

أوراق برية وملح
عانت فوكاسوا أوريجين، البالغة 24 من العمر، من وضع مأساوي في الفترة الماضية، بسبب عدم قدرتها على إطعام أطفالها، خاصة ابنتها الصغيرة التي تعاني من سوء تغذية. وهي تحدثت لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية مؤخراً عن محاولتها إنقاذ ابنتها، وقالت: "قطعت مسافة 11 ميلاً (17 كيلومتراً) طوال الليل للوصول إلى عيادة متنقلة تقع في قرية إلوماكا جنوبي منطقة أمبوساري، من أجل جمع مكملات غذائية طارئة لابنتي، فيما ينحصر غذاء زوجي وطفلي الآخرين في تناول ثمار الصبار، بعدما دمر الجفاف آخر محصولين للأرض التي تملكها عائلتي".
وتخبر عاشن سونافوري تاغنوماري، التي عاشت بدورها تجربة مماثلة للتأثيرات السلبية للجفاف، صحيفة "ذي فايننشال تايمز" البريطانية، أنها فعلت كل ما في وسعها لإبقاء أطفالها على قيد الحياة، "إذ كنت أغلي الأوراق البرية، وأضيف الملح لتحضير وجبة طعام".
وتقدّر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) معاناة 500 ألف طفل في مدغشقر دون سن الخامسة من سوء تغذية حاد، وتتوقع أن يزداد عددهم حوالي 110 آلاف شخص في القريب العاجل.
ويعترف محافظ منطقة أمبوفومبي (جنوب)، لإلينا راكوتوندرامانانا، بأن الجفاف قضى على المحاصيل الزراعية، ما رفع الأسعار تلقائياً أكثر من ثلاثة أضعاف، واضطر سكان المدينة إلى بيع ممتلكاتهم البسيطة، وبينها أدوات منزلية، للحصول على طبق أرز، أو شراء الماء الذي بات سلعة ثمينة لدرجة أن أحد السكان قارنه بالذهب السائل. 

يقضي الجوع على حياة كثير من مواطني مدغشقر يومياً (ريجاسولو/ فرانس برس)
يقضي الجوع على حياة كثير من مواطني مدغشقر يومياً (ريجاسولو/ فرانس برس)

اتهامات للغرب
وتتباين أسباب الأزمة في مدغشقر، وبينها التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية، وسياسات الحكومة، فيما لم يتردد خبراء في اتهام السكان أنفسهم بالمساهمة في الوضع السيئ، من خلال ما يسمى "التدمير الذاتي للبيئة". 
وعزت الأمم المتحدة الأزمة في تقارير عدة إلى التغيّرات المناخية. ووصفت شيلي ثاكرال، من برنامج الغذاء العالمي التابع للمنظمة الدولية، المجاعة بأنها "الأولى في العالم المرتبطة بتغيّر مناخي"، في حين نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" عن خبراء قولهم إن "الأزمة نتجت عن الفقر وسوء الإدارة". أما الحكومة فاتهمت الغرب مباشرة بالتسبب في الأزمة، من خلال زيادة الانبعاثات الكربونية التي تسببت في مشاكل في دول عدة. 
وعلى هامش مؤتمر الأمم المتحدة الدولي للمناخ "كوب 26" الذي استضافته مدينة غلاسكو الإسكتلندية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، انتقدت وزيرة البيئة في مدغشقر، باوميافوتسي فاهينالا راهاريرينا، فشل الغرب في التعامل جدياً مع أزمة المناخ، وقالت: "لم تحترم الدول الغنية التعهدات التي قطعتها بدءاً من عام 2009، والخاصة بحشد 100 مليار دولار لمساعدة البلدان الفقيرة في تخفيف حدة التغيّر المناخي، والتكيّف معه. ولو حصلت مدغشقر على حصتها من هذه الأموال، لكانت شيّدت خط أنابيب لجلب المياه إلى مناطقها الجنوبية الجافة".
وأورد تقرير أصدرته مجموعة "وورد ويذر أتريبيوشن" للبحوث في ديسمبر/ كانون الأول الماضي أن "تغيّر المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان لعب دوراً رئيسياً في الحال التي وصلت إليها مدغشقر". وتابع: "انعدام الأمن الغذائي في مدغشقر مرتبط بعوامل عدة، يرتبط بعضها بالبيئة والمناخ، وبعضها الآخر بالتركيبة السكانية والفقر والبنى التحتية، إضافة إلى سياسات الحكومة". ودفع هذا التقرير خبراء إلى اتهام حكومة مدغشقر بالتسبب في الكارثة الإنسانية، وحمّلوها مسؤولية ما يحصل في جنوب البلاد، بسبب سياسة الإهمال وانتشار الفساد، وسوء إدارة توزيع المياه. 

لم يبقَ إلا طعام الصبار (ريجاسولو/ فرانس برس)
لم يبقَ إلا طعام الصبار (ريجاسولو/ فرانس برس)

تنصل حكومي من "المجاعة"
نقلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن روندرو باريمالالا، وهو عالم بيئي من مدغشقر يعمل في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا، قوله إن "إدارة المياه في البلاد مهمة جداً، فصحيح أنها تعاني من حالات جفاف متكررة، لكن يمكن مواجهة ذلك من خلال استغلال تساقط مياه الأمطار، وبناء سدود على الأنهر".
واللافت أن راكوتوندرامانانا لم ينفِ نتائج تقرير مجموعة "وورد ويذر أتريبيوشن"، واعترف بأن إهمال الحكومة المناطق الجنوبية شكل أحد أسباب ما يعيشه السكان اليوم. لكن الحكومة لم تطلق حتى الآن مصطلح مجاعة على ما يحصل في الجنوب، رغم أن أحد مسؤوليها أقرّ، في حديثه لـ"فايننشال تايمز"، بأن الجوع يقضي على حياة مواطنين كثيرين يومياً.
وفي شأن ترجيح خبراء تسبب السكان في الأزمة، قدّر علماء القضاء على حوالي 17 نوعاً من الليمور العملاق، وهو نوع من الثدييات الموجودة في مدغشقر فقط، ونوعين من فرس النهر، التي جرى اصطيادها للحصول على اللحم. وعلى مدار سنوات، غيّر قطع الأشجار للحصول على فحم ملامح مدغشقر.
ويرى محللون أن تضاعف عدد سكان البلاد ست مرات، من 5 ملايين لدى نيل الاستقلال عام 1960 إلى حوالى 30 مليوناً، زاد الضغط على الموارد، وهو ما تُظهره صور الأقمار الصناعية التي تنقل اختفاء حوالي 40 في المائة من الغطاء الحرجي خلال نصف قرن.
وفي الأشهر الماضية، زاد هبوب الرياح الحمراء التي تحمل الرمال في مدغشقر، ما دمّر مساحات زراعية وفاقم الأزمة. لكن ذلك لم يمنع نفي دراسة نشرها باحثون في شبكة "وورلد ويذر أتريبيوشن"، التي تضمّ علماء كانوا سبّاقين في ربط تغيّر المناخ بالظواهر الطبيعية المتطرفة، ربط المجاعة التي تضرب جنوبي مدغشقر بالاحترار المناخي الناجم عن الأنشطة البشرية، وتأكيدها أنّ "دور هذا العامل ضئيل جداً، والكارثة ناجمة أساساً عن الفقر والتغيّر الطبيعي في المناخ".

علامات تحذير
وفيما يرى خبراء أن الأزمة في مدغشقر تدق جرس الإنذار عالمياً، باعتبار أن ممارسات التدمير البيئي وأهمها قطع الغابات المطيرة قد تتكرر في دول كثيرة، قال العالم الجغرافي جاريد دايموند في كتابه "الانهيار": يمكن أن تنحدر مجتمعات فجأة نحو التدمير الذاتي، مثل تلك في جزيرة إيستر بالمحيط الهادئ التي كانت مزدهرة يوماً، خصوصاً أن بقاءها يعتمد على عدم قطع الأشجار، وهو ما فعله سكان مدغشقر أنفسهم، ما يعرضهم اليوم لخطر البقاء على قيد الحياة".
وتشير أرقام من مصادر مختلفة إلى 1.68 مليون من سكان مدغشقر يواجهون اليوم انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، وأن81  في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر المحدد بأقل من 1.90 دولار للفرد يومياً. وتتحدث الأرقام أيضاً عن أن 500  ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد في البلاد حالياً.

وتحتل مدغشقر المركز العاشر في ترتيب الدول الأفريقية الأكثر فقراً، استناداً إلى نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي ومعادلته بالقوة الشرائية. ويبلغ إجمالي نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 1778 دولاراً سنوياً، ما يشير إلى أن ازدهار الصناعة السياحية فيها بسبب احتضانها حياة برية مذهلة لم يكفِ لانتشالها من الفقر، في حين ما زال معظم سكانها يعتمدون على الزراعة في معيشتهم، ما ترك اقتصاد البلاد عرضة للكوارث المرتبطة بالمناخ.

المساهمون